يقول المفكر المسلم علي عزت بيغوفيتش: "عندما نتذكر الحضارة الأوروبية لابد أن نتذكر أن النازية والفاشية كانتا من ثمار هذه الحضارة"، هذا الرجل الذي قال هذا الكلام وهو في السجن في حالة تأملية بعيدة عن ردود الفعل النفسية تجاه تطرف الأفكار الأخرى، عبر عن أحد جوانب روح هذه الحضارة الحديثة التي طغت قيمها اللاقيمية بالميزان الإنساني على الحياة بشكل شبه كامل، من دون التوقف عند الحاجز الجغرافي الفاصل بين الشمال والجنوب، فهي الروح ذاتها سواء كانت في الشق الغربي أو الشرقي، من دولها الغنية أو الفقيرة.
لقد تعمدوا انتهاك كرامة الإنسان وإذلاله ونشر صوره على الملأ إمعانا في الإذلال، وهو السادية بعينها، وبين المشاهد الثلاثة الكثير من إستئصال الهنود من أرضهم، ليس في أميركا الشمالية فحسب وإنما في هندستان الشرقية كذلك
إن النظرة الفاحصة على أحداث القرن العشرين والعقدين اللذين مضيا من الحادي والعشرين، تظهر لنا خطا مستقيما تصطف عليه مشاهد إنتهاك حرمات الإنسان، والغريب أن هذه الحضارة التي ترجحت لديها الأرباح المادية على كل شيء، وبما أن المادة تشكل وسيلة من وسائل الحياة السهلة المريحة للإنسان، لكنها تدمر كل قيم للإنسان ذاته الذي يقود الحضارة التي يبنيها من أجل إسعاده، فحق لروجيه جارودي إذن الحكم عليها "بأنها الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها"، فالمحرقة أو الهولوكوست التي ارتكبها النازيون الألمان بحق يهودهم وليس كل اليهود في العالم، قريبة من المشاهد التي ارتكبتها القوات الأميركية في "سجن أبوغريب" في العراق، وذاتها التي ارتكبتها ومازالت قوات الإحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في غزة على وجه الخصوص، ولو جاء الباحث وقارن بين الصور الفوتوغرافية للجرائم الثلاث، فلا يجد فرقا بينها سوى في التاريخ أو في لون الصورة أو الحجم ربما وليس في النوع، فصورة النازيون الألمان كانت بالأبيض والأسود، أما غزة وأبوغريب فهي ملونة، وهذا الأمر متعلق بالجانب التكنولوجي وتغير جهاز التصوير، أما الجانب الإنساني للجاني فهو نفسه، لم يتغير من هتلر في ألمانيا إلى الأميركيين في أبوغريب إلى الإسرائيليين في غزة.
لقد تعمدوا انتهاك كرامة الإنسان وإذلاله ونشر صوره على الملأ إمعانا في الإذلال، وهو السادية بعينها، وبين المشاهد الثلاثة الكثير من إستئصال الهنود من أرضهم، ليس في أميركا الشمالية فحسب وإنما في هندستان الشرقية كذلك، حيث أفقرت تلك الأرض الغنية تحت حكم الإمبراطورية العظمى، وإفناء الإسبان لحضارة المايا في المكسيك ودول أميركا الوسطى، وأفريقيا السوداء وإنشاء كيان عنصري فيها، والحربين العالميتين، وما يعرف بالحرب الكورية، كلها من ثمرة الفلسفة التي تقود الغرب المعاصر.
ينقل جارودي في كتابه "حفاروا القبور" شهادة القس "بارتولوم دي لاس كاساس" في كتابه (العلاقة الصامتة لتدمير الهند الغربية)، جوابا على سؤال: أين الهمج؟ قال الأسقف: الهمجية جاءت من أوروبا".
حينما سجل التاريخ الحديث مجزرة الألمان بحق يهود بلادهم والإهتمام الأكثر من اللازم بها كان من أجل تجنب تكرارها، كدرس قاس من دروس التاريخ، ليس تجنب تكرارها بحق اليهود لوحدهم وإنما بحق الإنسانية كلها من دون النظر إلى الدين أو العرق أو اللون، لكن ما يجري هو منع تكرارها لليهود فقط والسماح بممارستها بحق غيرهم، كأن القتل بحق اليهود محرقة أما القتل بحق غيرهم لا بأس به، بل إن القوم الذين مورست بحقهم المذبحة يعطون استثناء وحصانة ويرتكبون ذات الجريمة بحق غيرهم وهم يتفننون فيها، ما يجعل المرء أن يسأل هل النازية هي أشخاص محددون في فترة محددة، أو هي دماء تسري في الجسد الغربي؟.
المؤرخ اليهودي نورمان فنكلستين الذي نجا والداه من المحرقة النازية الألمانية، لما سئل عن موقفه من الأحداث الجارية على أرض غزة، قال: لو أردت إحترام ذكرى والدتي الناجية من المحرقة فلا يمكنني القبول بما يمارسه الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة.
إن المؤرخ الأميركي " نعوم تشومسكي" في كتابه " ماذا يريد العم سام" والمقصود بالعم هنا هو الولايات المتحدة الأميركية وهو يغوص في عمق التاريخ الحديث لتوضيح الغايات الأميركية وأهدافها التي تريد تحقيقها، يذكر في ثنايا مقالاته محطات من التعاون بين النازيين والأميركيين عند توحد الغايات بينهما، أو عند إمكانية اللجوء إلى القوة النازية المختلفة في دول أوروبا للقضاء على التحديات التي واجهت تثبيت سيطرة العم سام على تلك الدولة أو المنطقة.
الساسة والمفكرون الغربيون الأحرار يؤشرون إلى نهج دموي موجود في العالم، فعندما قال الرئيس الإسرائيلي عن الحرب على غزة إننا نقاتل أناسا متوحشين، رد عليه الرئيس الكولومبي" جوستافو بيترو" على منصة – إكس- بـ:" هذا ما قاله النازيون عن اليهود، لا يمكن للمجتمعات الديمقراطية أن تسمح للنازية بإعادة ترسيخ نفسها في السياسة الدولية"، والمؤرخ اليهودي نورمان فنكلستين الذي نجا والداه من المحرقة النازية الألمانية، لما سئل عن موقفه من الأحداث الجارية على أرض غزة، قال: "لو أردت إحترام ذكرى والدتي الناجية من المحرقة فلا يمكنني القبول بما يمارسه الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة". كلام جوستافو وفنكلستين هو تنبيه إلى إتجاه يقبل الممارسة النازية ويتغاضى عنها في العلاقات الدولية.
ومن حيث الجذور الفكرية، يرى عبد الوهاب المسيري في مجمل كتاباته عن الصهيونية وجود علاقة وتشابه بينها وبين النازية، في إطارهما العام أو بعض أصولهما المتعلقة بالجانب العرقي والأفضلية العرقية التي لا تتحمل وجود عرق آخر او قومية أخرى بجنبها، وهو النابع من فكرة "الشعب العضوي" المقدس، وما عداه لن يكون لأنه ليس من المكونات العضوية لهذا الشعب، ولهذا الجذر الفكري التشكلي أساس ديني تاريخي عند الصهيونيين من اليهود المتدينين، و قومي عند العلمانيين منهم، بل إن النازيين قالوا عند محاكمتهم إنهم أخذوا مبدأ الأفضلية العرقية من الكتابات المؤسسة للحركة الصهيونية، وطبقوها عليهم هم (بعد أن ضاقوا بهم ذرعا كما تقول كتابات تاريخية تحقيقية)، إن هذا يوضح الجرائم التي ترتعش لها الضمائر الحية في غزة، وبعد بحث طويل دام أكثر من عشرين سنة توصل المسيري إلى شبيه لما سطرناه من كلام علي بيغوفيتش بـ "أن النازية والصهيونية ليستا بأية حال انحرافا عن الحضارة الغربية الحديثة، بل تمثلان تيارين أساسيين فيهما، ولعل أكبر دليل على أن الصهيونية جزء أصيل من الحضارة الغربية بعلمانيتها الشاملة أن الغرب يحاول تعويض اليهود عما لحق بهم على يد النازيين بإنشاء الدولة الصهيونية على جثث الفلسطينيين".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.