من اللافت منذ أحداث السابع من أكتوبر، تشرين الأول التمترس الغربي وراء فكرة حق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس، وتكرار هذه الذريعة مبررا لحرب الإبادة الجماعية التي تستهدف الفلسطينيين بناء على عرقهم وموقفهم السياسي، وهو ما يرقي ليكون جريمة ضد الإنسانية كما وصفها خبراء في الأمم المتحدة.
ولعل من الصدف أن يثار الحديث عن حق الدفاع عن النفس في أحد البرامج الأكاديمية التي تدرس القوانين الدولية والصراعات ودورها في التسبب بموجات النزوح والتهجير، ويتم السؤال عن أحقية الدول في استخدام القوة ضد الجماعات غير الحكومية استناداً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي تجيز للدول الدفاع عن نفسها عند أي عدوان.
وبعد قراءة العشرات من الكتب والأبحاث القانونية، أردت مشاركة ما وصلت إليه مع قراء العالم العربي، الذين يفتقدون المؤلفات العربية التي تهتم أو تحلل الخلفيات القانونية للكثير من السياسات التي تنتهجها الحكومات، والتي يمكن من خلالها مساءلة هذه الحكومات ومحاسبتها أمام القضاء المستقل.
وتشير المادة صراحة إلى حق الدول الأصيل في الدفاع الفردي أو الجماعي عن نفسها عند أي حالة عدوان مسلح، وتوضح التفسيرات أن العدوان الذي يجيز حق الدفاع عن النفس هو عدوان من دولة تجاه دولة أخرى فقط، ويفترض في مثل هذه الحالة أن يتم التحاكم أولاً إلى الهيئات الدولية قبل اللجوء إلى القوة بشكل منفرد.
لم تكتف الولايات المتحدة بحربها على أفغانستان، بل أعادت الكرّة مراراً، فشنت عام 2003 حملة عسكرية ضد العراق تحت نفس الذريعة وحشدت قوات التحالف والعديد من الدول الأخرى إلى جانبها دون وجود قرار من مجلس الأمن
الحرب على الإرهاب.. الثغرة التي خرقت بها أميركا القانون الدولي
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أيلول انعطافه حادة في توجه الدول لاستخدام القوة، حيث تحولت الصراعات العسكرية من شكلها النموذجي كقتال بين دولتين متحاربتين، لتصبح حرباً بين دولة تجاه "مجموعات إرهابية" أصبحت تهدد الأمن والسلام العالمي حول العالم وفق زعمهم.
وتحججت الحكومة الأمريكية بأن خطر الجماعات غير الحكومية أصبح بمستوى عدوان الدول، خاصة وأنها أصبحت تمتلك القدرة والتقنية على شن هجمات عابرة للحدود تهدد الأمن والسلم العالميين، ودعم هذه الحجة قرار مجلس الأمن رقم 1368 الذي صدر في اليوم التالي لأحداث 11 من سبتمبر، أيلول، والذي أكد على الإجماع الدولي لإدانة هذه الهجمات، والاعتراف بالحق الأصيل في الدفاع عن النفس من خلال العمل الفردي أو الجماعي، دون أن يشير إلى أي غطاء قانوني يسمح باستخدام القوة ضد هذه الجماعات.
رغم قوة الحجة والتعاطف الدولي اللامتناهي في ذلك الوقت، فشلت الولايات المتحدة في استصدار قرار أممي يشرعن هجماتها العسكرية على أفغانستان تحت ذريعة "الدفاع عن النفس" و"الدفاع الاستباقي"، وقادت الولايات المتحدة عمليات عسكرية زعمت فيها أنها تستهدف تنظيم القاعدة استمرت على مدى 12 عاماً، شنت فيها آلاف الغارات الجوية وتسببت بمقتل عشرات الآلاف.
لم تكتف الولايات المتحدة بحربها على أفغانستان، بل أعادت الكرّة مراراً، فشنت عام 2003 حملة عسكرية ضد العراق تحت الذريعة نفسها وحشدت قوات التحالف والعديد من الدول الأخرى إلى جانبها دون وجود قرار من مجلس الأمن، ثم أعادت الكرة مجدداً في حربها على داعش عام 2014 في كل من سوريا والعراق.
أكد العديد من الخبراء والأكاديميين الغربيين المتخصصين في القانون الدولي أن هذه العمليات العسكرية قد انتهكت القوانين الدولية، ولم تبن على أساس قانوني متين، بل بنيت على ذريعة قدمتها الدولة التي تنوي الهجوم وفقاً لروايتها ووجهة نظرها، دون وجود معايير واضحة تؤكد الخطر أو التهديد الوشيك الذي تتعرض له، وهو ما فتح المجال للعديد من الدول لاحقاً لتنتهج هذا النهج بشكل عشوائي، وتشن حروباً وعمليات عسكرية على دول أخرى بمستويات مختلفة، وبحجة مجابهة جماعات إرهابية على غرار ما قامت به الولايات المتحدة.
وفي جميع هذه الحالات، لم تكن المواجهات العسكرية متوازنة بين إمكانيات دول وإمكانيات ما سميّ "المجموعات الإرهابية"، بل تحولت المواجهة لحالة انتقامية على الغالب، وعقوبة جماعية لكافة السكان القاطنين في تلك الدول بغض النظر عن علاقتهم بهذه المجموعات، وتسببت بمعاناة إنسانية هائلة وتدمير كبير في البنية التحتية ، دون أن تصل هذه العمليات العسكرية إلى هدفها أو تنهي أمر تلك الجماعات، فلم يكن من السهولة بمكان التمييز بين المدنيين وبين المقاتلين ، ولم يكن بالإمكان تحديد سقف زمني أو أهداف حقيقية بعد هذه الهجمات.
مارس الكيان الصهيوني في هذين الشهرين تحت ذريعة "الدفاع عن النفس" أفظع الجرائم، فاستهدف المدنيين والمستشفيات والبنى التحتية أمام عدسات الكاميرات، وحاصر مليوني مدني جلهم من النساء الأطفال
بين 11 سبتمبر؛ أيلول 2001 و7 أكتوبر؛ تشرين الأول 2023
ورغم عمليات الدفاع الاستباقي، شهد العقدان الماضيان نمواً وانتشاراً لما عرف بـ " الجماعات الإرهابية"، وازدياداً لوتيرة العمليات المضادة التي شنت ضدها، دون أن يكون هناك معايير عالمية واضحة تعرّف من هي الجماعات الإرهابية، ومتى تصبح عملياتها عدواناً على الأمن والسلام العالمي بما يستدعي العمل العسكري.
وقد بنيت العديد من العمليات العسكرية التي أريد منها استهداف تلك الجماعات الإرهابية على معلومات كاذبة أو مضللة، وأصبحت هذه الذريعة وسيلة بيد الحكومات المأزومة لترحل أزماتها الداخلية من خلال صياغة نصر خارجي موهوم على عدو قد لا يكون موجوداً، مؤججة بذلك نار الخوف والانتقام والثأر عند شعوبها والشعوب التي تستهدفها.
ولعل حرب الإبادة التي نشهدها حية منذ شهرين تعيد إلى أذهاننا الأسئلة حول مفهوم الإرهاب والعدوان، ونحن نشاهد يومياً كيف تحولت ذريعة "الحكومة الإسرائيلية" حول حقها المزعوم في الدفاع عن النفس إلى عملية انتقام ممنهجة تسعى فيها لمحو شعب كامل عن الخريطة، مستعينة بحلفاء لطالما تورطوا في نفس الجرائم وتحت نفس الذرائع.
لقد مارس الكيان الصهيوني في هذين الشهرين تحت ذريعة "الدفاع عن النفس" أفظع الجرائم، فاستهدف المدنيين والمستشفيات والبنى التحتية أمام عدسات الكاميرات، وحاصر مليوني مدني جلهم من النساء الأطفال، وحرمهم من إمدادات الماء والكهرباء والغذاء والدواء، وأجبرهم على النزوح والتهجير واستهدفهم خلال نزوحهم بالقنص والقتل والاعتقال والإذلال، واستخدم وسائل التضليل الممكنة كافة وتلاعب بالمعلومات محاولاً دعم حجته وروايته، مستعيناً بلوبياته المنتشرة في كل الدول والتي حشدت لهذه الجريمة سياسياً وإعلامياً، ومارست إرهاباً على الدول والحكومات بداية، وعلى الشعوب نهاية، فصادرت رأيها وأفكارها حتى في الدول التي ترفع شعار حرية الكلمة والتعبير.
لا يمكن التلاعب بالألفاظ في وقت تكون فيه الحقيقة مرئية واضحة، ولا يمكن تسمية الجريمة التي تحدث في غزة سوى أنها عدوان صريح سافر واضح المعالم لا يستهدف الفلسطينيين فحسب، بل يستهدف كافة القيم والمعايير الإنسانية ويهدد منظومة القوانين والمعاهدات الدولية، ويعيد مجتمعاتنا بقيمها ومفاهيمها المعاصرة إلى شكل المجتمع البدائي المنفلت من كافة القيود والذي تحكمه شريعة الغاب تحت سيطرة مجانين السلطة والقوة والنفوذ.
كما أن ما تقوم به "إسرائيل" من جريمة إبادةٍ منظمة، لا يتوافق مع حق الدفاع عن النفس، ولا يمكن تبريره قانونياً أو إنسانياً أو أخلاقياً، وما هو إلا وسيلة لإذكاء حالة العنف والعنف المضاد، وزيادة التوتر والأزمات في المنطقة، وتهيئة مناخ حقيقي لنمو تيارات اليمين والجماعات المتطرفة، والتي ستتخذ من هذه الجريمة ذريعة لتحريض الشباب المكلوم ودفعه نحو الانتقام، وسنشهد قريباً حالة متصاعدة من الكراهية والحقد والعنف، ستلتهم الجميع دون استثناء، وسندفع ثمنها مالم نتحرك الآن بكل ما نملك من أدوات، لإيقاف هذه الإبادة ومعاقبة المتورطين فيها .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.