قضيت معظم حياتي مهاجرا، وكانت تجربتي الأولى في الهجرة في صيف عام1967م، كنت في مرحلة الطفولة، لم يتجاوز عمري الـ 8 سنوات، عندما حملتنا حافلة نقل عتيقة عبر طريق طويل، لم يكن أحد يدري إلى أين ينتهي ومتى، كان صراخ الأطفال يصم الآذان، والعرق يتصبب غزيرا على وجوه تحمل كل سمات الأسى والحزن.
فجأة كان الرجال قد فقدوا ممتلكاتهم، وتركوا خلفهم بيوتهم الواسعة، سمعتهم يتحدثون عن الأعور موشي ديان الذي قاد اليهود للاستيلاء على بلدي، ودمر بيوتها بالطائرات، وقتل الشهداء.
بعد ساعات طويلة من العذاب وصلت الحافلة، وتم توزيع المهاجرين على بيوت ضيقة لا تناسب البدو؛ الذين اعتادوا على الحياة في بيوت واسعة.
أصوات النحيب الصامت على فراق الأحباب يُغرق كل آمال الناس في الحياة، لقد كان كل إنسان في القرية يتوقع الموت، وربما يتمناه باعتباره الحل الوحيد للمأساة.
الحياة في عالم جديد
كانت تلك القرية النائية في صعيد مصر عالما جديدا وغريبا، ففي الظهيرة تشتد الحرارة، كما لو أن الشمس قد دنت من الرؤوس، وفي الليل كان البرد يصل إلى درجة الزمهرير، فانتشر وباء الحصبة، الذي حصد الكثير من الأرواح، وانتشرت رائحة الموت في كل مكان؛ فكان الرجال يذهبون ليشيعوا جنازة، ثم يعودون لنقل ميت آخر إلى مقبرة أخذت تتسع حتى أصبحت على مد البصر.
أصوات النحيب الصامت على فراق الأحباب يُغرق كل آمال الناس في الحياة، لقد كان كل إنسان في القرية يتوقع الموت، وربما يتمناه باعتباره الحل الوحيد للمأساة.
لكن كان يجب أن نعيش!
مر العام الأول بطيئا ثقيلا مملا، لكن كان يجب أن يتدبر الناس أمر حياتهم، فأنشأت كل عائلة ديوانها الذي يتجمع فيه الرجال بعد صلاة العصر؛ لإعداد القهوة العربية التي كانت متعتهم الوحيدة.
صنع رجل منهم " ربابة" وهي آلة موسيقية بدوية، وأخذ يغني عليها شعره البدوي بصوته الجميل، فتحول ديوان العائلة إلى منتدى، شارك فيه رجال آخرون في غناء الأشعار التي تتناول سير أبطال العرب، وقصص القبائل. فيما تطوع رجل آخر بأن يروي قصة التغريبة الهلالية وأبي زيد الهلالي سلامة، وجذبتني تلك القصة بأحداثها المثيرة، كما وتمكن أحد الرجال من شراء راديو كان يحضره إلى الديوان، فيتحلق الناس حوله للاستماع إلى الأخبار، قال أحدهم يوما: إن عبد الناصر وافق على "مبادرة روجرز"، وأن إسرائيل سوف تنسحب، وعلينا أن نستعد للعودة إلى ديارنا، وفعلا بدأ الناس يتهيؤون للعودة، لكن الأيام مرت وفقد الناس الأمل مرة أخرى.
لذلك أحببت العروبة، وأدركت أن العرب يستطيعون أن يحققوا الكثير من الانتصارات والأمجاد عندما يقرأون تاريخهم، ويعتزون بأصلهم، وبأنهم الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم، فأضاءوا عقول الناس بمعرفة الله سبحانه وتعالى
أحببت العروبة وتعلمت قيمها
كان ذلك الديوان يجمع الكثير من شيوخ العرب، وبرغم المعاناة كانوا يقدمون لأبنائهم مثالا على الإصرار والصمود والاعتزاز بالكرامة.
وكانوا يحدثوننا عن أصول القبيلة العربية، وبطولات الأجداد من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلموننا الاعتزاز بهذا النسب الشريف الكريم، الذي يفرض علينا أن نعيش الحياة بما يتناسب مع الأصالة، فلا نحني هاماتنا إلا عبادة لله سبحانه وتعالى.
كان هؤلاء الشيوخ هم أساتذتي الذين علموني أعراف وتقاليد العرب وتاريخ أبطالهم، قبل أن أتعلم العلم في المدارس والجامعات، وأثر هذا التعليم على حياتي كلها، وعلى كل القرارات التي اتخذتها، وشكلت شخصيتي وأهدافي في الحياة.
طاعة الله وعبادته شرف
عندما أتأمل في تاريخ حياتي أشكر الله على نعمه التي كان من أهمها أنني تعلمت على أيدي هؤلاء الشيوخ، وكان من أهم الدروس التي تعلمتها وحرصت عليها، أن الذنوب والآثام تضعف قلوب الرجال، وتكسر هاماتهم، وأنني وفاء لأجدادي ولأصلي العربي ونسبي الشريف يجب أن أحرص على عبادة الله وحب الاسلام، وعدم ارتكاب أي عمل يمكن أن يجلب العار.
ربما حملني ذلك التعليم فوق ما أطيقه كإنسان، فقد حرصت دائما على الابتعاد عن كل ما يشين الرجال، أو يحط من قدرهم، فلم أتمتع بطفولتي أو شبابي، لكنني لم أندم يوما، فقد شعرت أن الله أنعم عليَّ بتاريخ مشرف أعتز به، واكتشفت وأنا أطور نظريات القيادة أن ذلك التاريخ المشرف من أهم سمات القائد الأصيل الذي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيه بذنوب ماضيه، أو يقلل من قيمته بذكر ما ارتكبه من أفعال تحط من قدره.
لذلك أحببت العروبة، وأدركت أن العرب يستطيعون أن يحققوا الكثير من الانتصارات والأمجاد عندما يقرأون تاريخهم، ويعتزون بأصلهم، وبأنهم الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم، فأضاءوا عقول الناس بمعرفة الله سبحانه وتعالى، وحرروا البشرية من العبودية لغير الله.
إن العربي خلقه الله ليكون حرا وكريما وسيدا، يكرم الضيف، ويعين على نوائب الدهر، لذلك أكرم الله العرب بالإسلام ليحرروا البشرية، وليحملوا رسالة الله الخاتمة للبشر، ولينصروا رسول الله، ويبنوا الحضارة والمجد ويحققوا الانتصارات.
كرم العربي أهم سماته!
في ذلك الديوان رأيت الكثير من الأدلة على أهم سمات العربي التي تشكل حياته، فبالرغم من حالة الفقر بعد الغنى، كان الجميع يحرصون على الكرم، فعندما يأتي الضيوف إلى الديوان يتنافس الناس على اعداد الطعام، ويمكن أن يقترض الرجل من جاره أو قريبه بعض المال ليقوم بواجبه في إكرام الضيوف.
والذي يضحي بماله القليل لإكرام ضيفه يمتلك شجاعة القلب؛ فلا يتردد في التضحية بنفسه دفاعا عن الدين والأرض والعرض.
أسهمت تلك السمة في المحافظة على حياة الناس وكرامتهم؛ فكان الناس يتقاسمون طعامهم، ويحققون نموذجا للتكافل الاجتماعي، فلا يشعر أحد بأنياب الفقر تعض قلبه، وبهذا تتحقق المساواة بين الجميع.
تلك السمة الحضارية الموروثة من الحضارة العربية أسهمت أيضا في تحقيق الانتصارات، فقد كانت القبيلة التي تعتز بنسبها لأنصار رسول الله تحرص عليها، وهي من ملأت قلبي حبا للعروبة وتقاليدها وأعرافها.
المحنة تحولت إلى نعمة
تحولت محنة الهجرة إلى نعمة من الله أسهمت في بناء شخصيتي، ومازال أساتذتي شيوخ العرب يحتلون خيالي بعد تلك السنوات الطويلة، وبعد أن رحلوا جميعا عن حياتنا، توضح هذه التجربة أهمية التربية بالمثال والقدوة، فهل تعود دواوين العرب لتصبح مدارس يتعلم فيها الشباب الأصول والقيم والأعراف والتقاليد وحب العروبة والإسلام؟
إن العربي خلقه الله ليكون حرا وكريما وسيدا، يكرم الضيف، ويعين على نوائب الدهر، لذلك أكرم الله العرب بالإسلام ليحرروا البشرية، وليحملوا رسالة الله الخاتمة للبشر، ولينصروا رسول الله، ويبنوا الحضارة والمجد ويحققوا الانتصارات.
في هجرتي الأولى علمني شيوخ العرب في الديوان كيف أكون عربيا، أعتز بأصلي ولغتي، وأتعلم العلم لأعلمه، وأدافع عن المظلومين، وأعمل لتحريرهم من كل أشكال الاستعمار، وأنا أحلم بذلك اليوم الذي ينتفض فيه العرب ليستعيدوا مكانتهم العالمية، ويبنوا حضارتهم، ويقودوا كل الأحرار في العالم، ويحققوا المجد والانتصارات، وهذا الحلم لابد أن يتحقق قريبا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.