شعار قسم مدونات

شعب الله المحتار!

“خيوط المؤامرة”.. بداية التوغل اليهودي في الجسد الفلسطيني
"شعب الله المحتار" لأن صفة الحيرة لازمته والحيرة تخبط وتيه في الأقوال والأفعال (الجزيرة)

التقيت ذات صيف على أطراف مدينة "سانتياغو دي كومبوستيلا"، مدينة الكاتدرائية المسيحية المعروفة، بائع خراف إسباني يحمل اسم "سان إستيبان"، تجاذبنا أطراف الحديث عن العمل والأوضاع، ولأنني دائما أسأل عن أسماء من ألقاهم من الغربيين وعن معناها في ثقافتهم، أخبرني أن اسمه تفاؤل باسم "القديس إستيبان". قلت له مازحا حينها: ينبغي أن تكون "صالحا" و"قديسا" لتستحق اسمك. وكان لهذه العبارة العفوية على نفسه المتواضعة أثر قوي، وكأنما انتبه من غفلة، انحنى للكلمة انحناءة تحمل الكثير من المعنى.

لقد خطر ببالي وأنا أسأله ما سمعته في حضرة رجل رباني ذات مجلس خير، سحبنا فيه من فحيح أوجاعنا إليه، داوى بالله آلامنا وشحذ آمالنا، فهدأنا به وعلى يديه، خطر ببالي قوله يومها: لكل من اسمه نصيب.

في كل ركن من "أشياء" هذا الكون روح يطل علينا عبر الرمز والاسم بعض من كنهها، وإن التأمل في روح الرموز والأسماء، سير على خطى أبينا آدم الذي علمه الله الأسماء كلها

"سانتياغو دي كومبوستيلا"، مدينة يحج إليها آلاف المسيحيين، مشيا على الأقدام، سيرا على خطى القديس سانتياغو، الذي بنى هناك كنيسة صغيرة استجابة لطلب مريم العذراء في المنام. سانتياغو، "سان لاغو" هو الاسم الإسباني لـ "جيمس" أحد الأصدقاء المقربين للمسيح. الاسم "جيمس"  من أصل عبري ويشتق من "يعقوب" ويعني "المستبد"  أو "الماسك بالكعب". الاسم اكتسب شهرة في ثقافات ولغات مختلفة، فجيمس هو إحدى صوره في اللغة الإنجليزية، و"سانتياغو" في الإسبانية، "جياكومو" في الإيطالية، و"جاكوب" في الألمانية، "تياغو" في البرتغالية و"جاك" في الفرنسية، وكلها أسماء "مستبد" و "ماسك بالكعب".

قطعت رأسه في القدس بأمر من الملك هيرودس أغريبا، وذلك حوالي سنة 44 ميلادية، ونقلت رفاته ليدفن بالشمال الإسباني قرب كنيسته. ووفقا للتقاليد المسيحية يتم التذكير بوفاته في عيد القديس جيمس. لاحقا انتزع شارلمان في القرن الثامن خلال الحروب مع المسلمين، موقع الدفن من "الكفار" -هكذا اسمهم بالنسبة إليه-، وأمر بالحج إلى الكنيسة التي أصبحت كاتدرائية، ثم واحدا من أهم المواقع الدينية في العالم المسيحي، ثالث مقصد للحج بعد القدس وروما.

في كل ركن من "أشياء" هذا الكون روح يطل علينا عبر الرمز والاسم بعض من كنهها، وإن التأمل في روح الرموز والأسماء، سير على خطى أبينا آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، وتجربة جدير أن تخاض، ذلك أن الأسماء ليست مجرد وسيلة للاستعمال في طرق المدينة، وخارطة العالم، إنها مظهر روح وعنوان التزام وبرنامج عمل، يكشف البحث فيها جانبا كبيرا من الروح المهيمنة على المجتمعات، وفلسفتها ونظرتها إلى الحياة والإنسان والأخلاق والدين.

في التوراة، يطلق اسم "إسرائيل" على يعقوب، بمعنى "قوي ضد الرب" وسبب هذا اللقب كما في سفر التكوين، صراعه مع الرب، فقد جاء الرب على صورة ملاك وتصارع مع يعقوب حتى طلوع الفجر فقال له: أطلقني، فقال يعقوب: لا أطلقك إن لم تباركني. فسماه الله "إسرائيل"، ويستمد شياطين الكيان من هذا المعنى حوافز أن تكون "إسرائيل" قوية ضد جميع أعدائها.

وفي سفر التثنية: " لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض "ومنه تسمية "هاعم هنفحار"، أي "شعب الله المختار". المختار!، كان اسما يستهوينا ونحن صغار، أن نفهمه في ضوء صفات بعض أصحابنا، دالا على الغباء المطلق. كنا نتهكم على حامله إن غلط، نناديه: المخ. طار.

في ضوء الأحداث الجارية اليوم، بناء على حال الاتصاف لا دعوى الوصف، ولأن بلاغة اللغة تتيح إعادة قراءة الأسماء على غير ظاهرها، إذ فيها باب تسمية الشيء بضده، فقد سميت فرقة من اليهود صدوقيين، لكثرة إنكارهم وكذبهم، وسمي "نتن" "ناتان" وهو في العبرية "عطاء الرب"،  وفي واقع العالم اليوم مسخوط الرب ومجرم الحرب ونتن القلب. في ضوء ذلك، متأملا، أراجع دعوى "شعب الله المختار" إلى فهم الصبى "المخ.طار"، دلالة على سلوك البهيمية غير العاقلة وغياب أدنى درجات التعقل والبشرية، كما أستدعي الحيرة مفتاحا، فأقرؤها: "شعب الله المحتار" لأن صفة الحيرة لازمته، والحيرة تخبط وتيه في الأقوال والأفعال، كما تجلت ذات سخط رباني تيها في الأرض. والحيرة حالة ضياع تام بين الوهم والحقيقة، أو هي تشوش وألم نفسي ناتج عن طريقة عيش الفرد وتمثله للأشياء كما وصفها أبيقور، وما هي إلا وجه من الزلزلة التي يحدثها التعامل اللامتوازن مع العالم.

في منظومة نهاية التاريخ عند أقدام الفلسفة الغربية، يصر البعض على التبشير برجل فوكوياما الأخير، وليس في تقديرهم سوى "سانتياغو"، المستبد "الماسك بالكعب".

على ذكر الحيرة، في كتابه "حيرة يهودي"، استحضر اليهودي إسحاق دويتشر، تعريف معجم أوكسفورد لاسم "يهودي"، أنه: المرابي الجشع الشديد المساومة. وتعريف فعل يستهود، بمعنى "يغش ويخدع".

في المنظومات التربوية المراعية حقوق البشر والكائنات الساعية للانسجام مع الكون، تكاملا وتعاونا وبرا، تغير الأسماء تغليبا لقيم وفلسفة الخير، مهيأة نفوس حملة هذه الأسماء لدخول إيجابي لهذا العالم، عنوانه العمران ومكارم الأخلاق وحميد الصفات، حول الإسلام الأسماء من صعب إلى سهل، ومن حرب إلى سلم وحسن، ومن عاصية إلى مطيعة، ومنع التسمي بأسماء الشياطين والفراعنة والشرك والفسق. وظلت الأسماء رحمة على أصحابها أو نقمة، روحا تظل حامليها.

يروي البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن: أن أباه حزنا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما اسمك؟ قال: حزن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت سهل، فقال: لا أغير اسما سمانيه أبي. يقول سعيد ابن المسيب، حفيد حزن: فما زالت الحزونة فينا بعد، بمعنى: الصعوبة وغلظ الطبائع والشدة.

وفي منظومة نهاية التاريخ عند أقدام الفلسفة الغربية، يصر البعض على التبشير برجل فوكوياما الأخير، وليس في تقديرهم سوى "سانتياغو"، المستبد "الماسك بالكعب". حاشا بعضا من عقلاء الغرب الأقرب مودة ذلك بأنهم لا يستكبرون أن يبحثوا رفقة غيرهم على أرضية مشترك إنساني.

وفي مشتتة التيه والحيرة ما لا يدرك بعقل، فالمخ طار إذ يروم فهما، والعقل حار إذ يبحث عن أرضية تعاون وقاسم تفاهم. ويبدو ألا حتمي غير صراعات هنتنغتون، ومواجهات المبنى والمعنى، وإن من الصفاء وكمال العطاء، ما لا يحصل إلا بعد شدة وزلزلة، تقول كل البشرية اليوم: ما لها؟ ويومئذ -وعساه قريبا- تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان