شكلت الحكومة بمصادقة ملك النرويج لجنة ستولست، التي قدمت تقريرا مطولا أصبح له مكانة مركزية وتأثيرات دستورية وقانونية وفكرية في علاقة الدين والدولة بالنرويج. طُلب صراحة من اللجنة أن تنطلق من مبدأين يجسدان التشريع النرويجي:
الأول: المهمة الأساسية للدولة في سياسة الدين والمعتقد هي تأمين وحماية حرية الدين والمعتقد.
الثاني: يجب على اللجنة أن تفترض أن الدولة مستمرة في اتباع سياسة الدعم النشط للدين والمعتقد". اللجنة أكدت في أول نتائجها أن النرويج تتبنى "علاقة تعاونية مدمجة" بين الدين والدولة، فيها كنائس وطنية تتميز "بارتباط خاص بالدولة" و"تمنح مجتمعا دينيا معينا اعترافا رسميا خاصا، وهذا يقتضي أيضا مكانة خاصة في التشريع"، فيما تتابع اللجنة أن النرويج تخالف النموذج القائم على "مبدأ حياد الدولة والفصل الواضح بين الدين والدولة.. يُشار إلى هذا المبدأ باسم العلمانية" مثل أمريكا وفرنسا. (المجتمع المنفتح).
هكذا تأسس النموذج النرويجي على التمييز بين طريقين مختلفين جذريا لعلاقة الدين بالدولة، لكل طريق نقطة بدء تذهب به إلى سياسات وتشريعات ونظم حكم مختلفة، المفاهيم المركزية في الطريق الأول هي التعاون والإدماج والاعتراف والدعم والارتباط بين الدين والدولة، بينما نجد في الطريق الثاني مفاهيم الحياد والفصل.
تشرح مداولات البرلمان المعايير الحاكمة لتعديل الدستور أنه "من المهم ألا نفقد مكانتنا المسيحية كأمة"، وهذا التعديل الدستوري "لا يعني أننا ننزع الطابع المسيحي عن النرويج"
الدين في الدستور والهوية
ترجم الدستور هذا النموذج، فنصت المادة (2) أن (يبقى الدين الإنجيلي اللوثري الدين الرسمي للدولة)، فالمذهب اللوثري عريق في النرويج، ولم يكتف الدستور بذلك حتى حدد كنيسة رسمية هي الكنيسة اللوثرية فأصبح للدولة دين وكنيسة. تؤكد المادة (4): "الملك يجب أن يظل دائما مؤمنا بالديانة الإنجيلية اللوثرية ودعمها وحمايتها"، والملك هو رئيس الدولة ورئيس الكنيسة فيجمع في شخصه رئاسة السلطتين الدينية والزمنية، وتشترط المادة (12) أن يكون نصف الوزراء على الأقل مسيحيين من المذهب اللوثري.
استقرت ديمقراطية النرويج على هذا النظام 200 سنة تقريبا، من أول دستور عام 1814حتى 2012، وبهذا النظام والدستور حازت المراتب الأولى لمؤشرات الديمقراطية والحريات على سنوات طويلة، فكانت الأولى في مؤشر الديمقراطية الدولي (إيكونوميست) مثلا في أعوام 2010 و2011، وكانت من أول دولتين في مؤشر (الحرية في العالم)، هذان المؤشران من أشهر المؤشرات الدولية موثوقية.
تزايد الضغط على النرويج لتعديل هذا النظام، لكن رسوخ الدين استطاع حفظ الطابع المسيحي اللوثري ومنعكساته القانونية، فكان التعديل المشهور للدستور عام 2012، بعد نقاشات ولجان نشطة استمرت 7 سنوات على الأقل، تم الانتقال من "دين الدولة" إلى "قيم الدولة": يجب أن يبقى أساس القيم تراثنا المسيحي والإنساني، وأُلغي شرط الدين للوزراء، وأُلغيت رئاسة الملك للكنيسة، في المقابل تمسك الدستور بشرط دين رئيس الدولة أن يكون لوثريا، ومنح الكنيسة استقلالها عن الدولة بإدارتها وقرارها، وجعلها مؤسسة دستورية لها مكانة خاصة في الدستور، وألزم الدولة بتوفير التمويل الكامل للكنيسة ودعم بقية الطوائف والأديان كما في المادة (١٦). ولم تتحرك مؤشرات الديمقراطية والحريات قبل وبعد التعديل.
تشرح مداولات البرلمان المعايير الحاكمة لتعديل الدستور أنه "من المهم ألا نفقد مكانتنا المسيحية كأمة"، وهذا التعديل الدستوري "لا يعني أننا ننزع الطابع المسيحي عن النرويج"، لأن "المسيحية تشكل نظرتنا للإنسانية وقيمنا وقوانيننا وتاريخنا وثقافتنا.. واتفقت الأحزاب أخيرا على أن المسيحية لابد أن تظل جزءا مهما من دستور الشعب النرويجي.. المسيحية يجب أن يظل لها موقع مركزي".
يعتمد النموذج النرويجي تفضيل دين الأغلبية، بشرط حرية الأديان الأخرى وحقوقها والعدالة معها وعدم التضييق على أتباعها، مستندا على أن (التفضيل القانوني لدين معين لا يتعارض مع الحرية الدينية)
الأسئلة الثلاثة الحاسمة
درست لجنة ستولْسِت أنظمة الدول في علاقة الدين بالدولة لتحديد تموضع النرويج، وانتهت إلى وجود ثلاثة أسس عميقة تنتهي إليها الأنظمة المختلفة:
الأول: من حيث المبدأ؛ هل ينبغي على الدولة أن تدعم الأديان والمعتقدات أو تقف على الحياد؟
النرويج تدعم الدين وتحمل مسؤوليته وتيسر ظهوره في المجال العام وهوية الدولة ومؤسساتها، أحد حججهم أن "الدين منفعة عامة" ومن أهم احتياجات الناس لما يحققه من طمأنينة روحية وتماسك اجتماعي وحمل القيم والهوية وغير ذلك، ويجب على الدولة تسهيله ورعايته، فمهمة الدولة تجاه المصالح العامة أن تحمل مسؤوليتها لا أن تقف على الحياد تجاهها أو تنفصل وتبتعد عنها، يؤكد غيرهارد روبيرز -رئيس مشروع الدولة والكنيسة في الاتحاد الأوربي- أن هذا "يفرض على الدولة دعما نشطا للدين وتوفير الفضاء الذي يحتاجه الدين للازدهار في الوجود السياسي". (إعادة النظر في العلمانية، 177).
الثاني: هل يجب على الدولة أن تعامل الأديان بالمساواة؟
يعتمد النموذج النرويجي تفضيل دين الأغلبية، بشرط حرية الأديان الأخرى وحقوقها والعدالة معها وعدم التضييق على أتباعها، مستندا على أن "التفضيل القانوني لدين معين لا يتعارض مع الحرية الدينية"، لأن "هامش تقدير الدول لحقوق الإنسان يسمح للأغلبية في دولة ديمقراطية بالتعبير الثقافي عن المجتمع، طالما ضمنت الحد الأدنى من الفرص لحرية الجميع". والمعاملة الخاصة لدين الأغلبية لا تقوم على أساس ظالم يتعارض مع سيادة القانون وحقوق الإنسان، بل هناك أساس واقعي وعادل، فالمسيحية متجذرة في تاريخ النرويج لمئات السنين بثقافتها وتقاليدها و "من غير المناسب تدمير هذا التقليد من خلال مطالبة الدولة النرويجية بأن تكون محايدة في الأمور الدينية.. يجب أن يكون لمجتمع مثل المجتمع النرويجي ترسيخ ديني واعي وقيم، ويجب التعبير عن ذلك في التشريعات"، ولذلك سيكون "من الطبيعي أن تتمتع كنيسة النرويج بمكانة خاصة". (راسل ساندبيرج ونورمان دو، الكنيسة – علاقات الدولة في أوروبا، 6)
الثالث: هل ينبغي على الدولة أن تسيطر وتدير المؤسسات الدينية الموجودة في البلد؟ منذ عدة سنوات من 2012 تحديدا، كانت الدولة النرويجية تملك وتدير الكنيسة، أما اليوم فلا.
ما يحقق مصلحة البلد هو انغماس الدولة في ثقافة البلد وحضارته والتفاعل الحيوي مع ديانته، ثم تجسيد ذلك في الترتيبات الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، تتسع الديمقراطية الفعلية لمثل هذا النموذج والخطاب.
في التعليم والجيش
نصت القوانين أن من أهداف التعليم والمدارس: "دعم التنشئة الصالحة في نقل التنوير المسيحي الحقيقي للشباب" و "أن تساعد في تربية التلاميذ تربية مسيحية وأخلاقية"، عُدلِّت في السنوات الأخيرة هكذا: "يجب أن يرتكز التعليم على القيم الأساسية في التراث والتقاليد المسيحية والإنسانية". لكن في كثير من المدارس والجامعات اليوم توجد مصليات و"هيئة كهنة طلابية" تتبع لكنيسة النرويج وتنظم أنشطة دينية. فيما يرتبط الجيش بالكنيسة اللوثرية على مستوى الهوية والأنشطة والمؤسسات والمباني، مثلا يؤدي الجيش كجزء من النظام العسكري اليومي "الصلاة في الصفوف"، يقفون بزيهم العسكري ويؤدون صلاة جماعية، وتوجد أماكن عبادة مخصصة، و"فيلق القساوسة الميدانيين" التابع للكنيسة والدفاع يتولى التوعية الدينية والأنشطة والاحتفالات المسيحية، ورئيس فيلق القساوسة هو المستشار الديني والأخلاقي لوزير الدفاع.
رغم تحليل أحد المفكرين السياسيين للدول الإسكندنافية فقد رأى أنه يمكن إرجاع عبارة "الإسلام دين الدولة" إلى العصور الوسطى حين كان يُمنح أمراء المقاطعات حق تحديد دين المقاطعة. هذا تحليل غريب وبعيد، الحقيقة أنها ترجع إلى الديمقراطيات الحديثة كالنرويج، فدساتير الدول الإسلامية اقتبست الصيغة نفسها بعد تخليصها من البعد الطائفي "اللوثرية المسيحية".
ما يحقق مصلحة البلد هو انغماس الدولة في ثقافة البلد وحضارته والتفاعل الحيوي مع ديانته، ثم تجسيد ذلك في الترتيبات الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، تتسع الديمقراطية الفعلية لمثل هذا النموذج والخطاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.