من ثلاث سنوات أعكف على مشروع خاص في تتبع آيات القرآن كلّها، والبحث عن الظّلال النفسية، والرؤى التربوية، والأبعاد الأسرية في القرآن الكريم، وفي السعي الدؤوب والبحث المتأتي من القراءة الهادئة للقرآن، والنظر في المفردات والتراكيب للآيات، وتحليل لاستخدام مفردة دون سواها، بل والوقوف عند اسم السورة وعدد الآيات، والعلاقة بين موضوعات السورة، من أجل الخروج بقراءة نفسية تربوية لهذا النص المحكم، وكنتُ أجد مادة دسمة ترنو إلي من بعيد كلما دققت النظر في تفاصيل التفاصيل لهذه السور القرآنية.
كانت سورة الطّلاق، سورة الإصلاح الأسري الأكبر، وسورة الفرج بعد الشدة لكل بيت يمر بشِدة، وسورة الأمر الذي سيحدثه ربُ العِزة عندما نتشبث بأن لا نتعدى حدوده.
مما استوقفني وأنا الذي يعمل في مجال علوم التربية وفي الإرشاد الأسري من سنواتٍ طويلة، سورة الطلاق ووجود تناقضات هي أول ما يطرأ على القارىء الفطير، ومجموعة من القضايا والتعابير التي تجعلني حيرانا بادي الرأي كلما أرادتُ أن أمسك بتلابيب الفكرة، فما تبرح حتى تغادر المكان رهوا، ولكن مع طول النظر وتقليب البصر رأيت أن هذه السورة تحمل معالم لخارطة الطريق لكل بيت، وفيها منادح كثيرة لكل مُريد يريد أن يفهم كيف يتعامل القرآن مع الأسرة، وبقي السؤال كيف لسورة تعدادها اثني عشر آية أن يطفو على سطحها أحد عشر موضعا للحديث عن الفرج بعد الشدة، وكيف لسورة تحمل اسم الطلاق أن تكون بوابة الإصلاح الأسري.
كانت سورة الطّلاق، سورة الإصلاح الأسري الأكبر، وسورة الفرج بعد الشدة لكل بيت يمر بشِدة، وسورة الأمر الذي سيحدثه ربُ العِزة عندما نتشبث بأن لا نتعدى حدوده. فتعالوا نترافق لكي ندقق النظر في هذه اللوحة البديعة، التي تحمل في طياتها سبائك الإصلاح الأسري.
لعل أول ما يجعل القارىء يقف حيرانا بين يدي هذه السورة، هو أن اسمها "الطلاق" وهي لفظة تشي ببناء مخلخل للمجتمع، وشبكة من العلاقات الاجتماعية المهلهلة، وبناء قد انقض من أصله على رؤوس ساكنيه، فالطلاق في المخيال الأسرة الإسلامية أب تخلى عن واجباته اتجاه أسرته، وأم نقضت غزل بيتها بيدها، وأولاد مشردين لا يجمعهم سقف، ولا تحملهم أروقة سكن مشترك، بل ومجتمع ينظر إلى المطلقة على أنها سهلة المنال، قريبة الطلب، شديدة الحاجة، مطواعة الانقياد. فكيف يكون اسم توقيفي لسورة قرآنية بهذا الوضوح، وهي تحمل هذا الكم الهائل من علامات الخطر الحقيقي؟
تقرع السورة الكريمة عقل العربي الأول بقولها: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) وانظر في لفظة الإحصاء، وأقول: يا خليل، لماذا لفظة الإحصاء وليست العد؟ لماذا الإحصاء وليس الجمع؟ لماذا الإحصاء وليس أي لفظة أخرى من بحر العربية الأكبر؟ والجواب يمثل لك وأنت تدقق النظر في معنى الإحصاء، إذ أنه العد الذي يكتمل بشرطيه التأمين وهما العد النوعي والكمي..
الناظر والمتتبع لهذه السورة يجد أن الطلاق بوابة إصلاح أسريّ نحتاجها اليوم، كما عرضها القرآن في هذه السورة البديعة، فتعالوا معي إلى نزهة مشوقة في سورة تحمل اسما مليئا بالفرج، والحب، والخير، والدافعية للحياة.
تطالعك السورة بنداء للأمة من خلال سيدها عليه السلام: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) وهنا السؤال، خطاب للنبي عليه السلام؟ في التطليق للنساء؟ نعم، ويكأن الله يقول لنبيه إن الطلاق أمر محمود جدا وما أدل على ذلك مما ذكر في هذه الآية بأن يخاطب النبي عليه السلام به، بل ويطلب منه مجموعة من الأحكام والضوابط والأنظار التي يحتاجها المسلم عندما يقرر هذا الأمر، فيا أيها النبي، رسالة أنني أنا النبي محمد أُخاطب بأمر الطلاق، وهو أمر لا خوفَ منه، بل الخوف في جعله وسيلة انتقام لا وسيلة فرج بعد شدة.
ثم تقرع السورة الكريمة عقل العربي الأول بقولها: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) وانظر في لفظة الإحصاء، وأقول: يا خليل، لماذا لفظة الإحصاء وليست العد؟ لماذا الإحصاء وليس الجمع؟ لماذا الإحصاء وليس أي لفظة أخرى من بحر العربية الأكبر؟ والجواب يمثل لك وأنت تدقق النظر في معنى الإحصاء، إذ أنه العد الذي يكتمل بشرطيه التأمين وهما العد النوعي والكمي، وهنا تبزعندك القيمة الأخلاقية للمرأة المعتدجة التي يحفظ لها القرآن طهر رحمها من الحمل، وطهر روحها في وقت محدد لكي تصبح قادرة على البناء بشخص آخر، وعلى طهر نفسها أن لا يتحكم بها الزوج، فيبخسها العد زيادة أو نقصا بل كانت لفظة الإحصاء متبوعة بالتقوى حتى ينتقل الأمر من الهوى والخاطر المستباح والإنتقام من الزوجة إلى ضابط مراقبة الحق وهو فاتقوا الله.
تأتي اللفظة الواضحة المبنى والمعنى (تُخْرِجُوهُنَّ) ويكأن القرآن يجعل في هذه اللفظة عادات وتقاليد مجتمعات تجعل الرجل من ذوي الكلمة الفصل الذي يوظف كل ممكنات تنشئته وخرافات قبيلته ليجعلها حاكمة على النص القرآني البديع
وهنا تطالعك الآية الأولى في أمر ثالث هو بمثابة حرب ضروس على تقاليدنا المتخلفة، وتنكرنا للجميل والمعروف بيننا، فيقول الحق بمنتهى الصراحة والوضوح بلا تأويل للآية يخرجها عن مقصدها الأسمى، ولا محاولات فهم ممجوجة تنقل النص من رحابة العدل الإلهي إلى ضيق الزلم البشري، ولا هروب من الاستحقاق العادل إلى التنصل من تاريخ المودة والرحمة، وبكل وضوح وشفافية تقول لك الآية أيها الزوج المُطلق انتبه: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ) أرأيت إلى الأداة التي تمسك بشدة على قلبك وتقول لك إياك، احذر، انتبه، أن تخرجها من بيتها، بل اتركها في البيت تنفس عن غضبها، وتتأمل جدران منزلها، لعلها تجد فرجا ويذهب الغيض كله، وتأتي اللفظة الواضحة المبنى والمعنى (تُخْرِجُوهُنَّ) ويكأن القرآن يجعل في هذه اللفظة عادات وتقاليد مجتمعات تجعل الرجل من ذوي الكلمة الفصل الذي يوظف كل ممكنات تنشئته وخرافات قبيلته ليجعلها حاكمة على النص القرآني البديع، فجاءت اللفظة ناهية بالأمر الصريح لا تخرجونهن أيها الّجال بل جاءت تتمة الآية لتعلن للنساء حقا تجاوز الواقع المادي إلى الواقع النفسي بقوله: (بُيُوتِهِنَّ) وهنا تؤكد عليك السورة في الآية الأولى في هذه اللفظة، وفي هذا الضمير العجيب في جعل البيت للنساء، لأن الإقامة في هذا البيت جعلت بين المرأة والبيت نسبا من شدة اهتمامها به، وحرصها عليه، فهو بيتها النفسي والمادي فلا تتعجل في إخراجها في نص القرآن بل وأنت أيتها المرأة، إياك أن تفكري في أمر الخروج فهو بيتك، ولعل هذا التمسك بالبيت المادي يجعل النفس الإنسانية عند الّجل والمرأة مراجعة لذاتها ومراجعا هو لذاته، فيلملمان تاريخا من الود يبدد غيوم الواقع من المشاكل فيبنيان مستقبلا فيه التقوى المعينة على المودة والرحمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.