مع كل قذيفة هاون تطلقها المقاومة؛ تهتز أغصان الزيتون وحبة كبيرة عالقة.
أنظار الجميع على القذيفة ونظري على حبة الزيتون، إنه شهر أكتوبر، تشرين الأول موسم الحصاد، هل شغلت الحرب أهل غزة عن أرزاقهم؟
لا أظن، فبعد تدقيق النظر في الفيديو المسجل لم أجد غير ذات الحبة، إذ اكتمل الحصاد وبقي "التعفير".
"التلميط"؛ مرحلة التقاط حبات الزيتون التي سقطت من الشجرة وحدها بنضج مبكر
ثم انشغل بالي؛ أين صبية التّعفير عنها؟ تابعت الشرائط التي ترسل تباعا الواحد تلو الآخر دققت النظر في الأغصان التي تتولى احتضان المجاهدين يرمون، تبارك رميهم، تهتز فرحا وتشجيعا مع كل رمية وقد اختفت كل حبات الزيتون عن المشهد، إذن فعلها صبية التعفير!
تذكرني المشاهد التي أراها مرارا من أراضي الزيتون الفلسطينية بأراضي ضيعتنا، فقد كبرت وسجلت ذكرياتي مع شجر الزيتون، أحفظ مراحل القطاف بالّترتيب بلهجتنا التي لا أعرف لها رديفا فصيحا، فقد كنا نبدأ حصادنا بمرحلة "التلميط"؛ وهي مرحلة التقاط حبات الزيتون التي سقطت من الشجرة وحدها بنضج مبكر، نمشي القرفصاء أو على الركب، نحتك بتراب الأرض تنخدش أصابعنا وقد نجد غير الزيتون ما يشغلنا صغارا أو تلدغنا عقرب، تلقي أمي المثل علينا نحفظه: "جنب العقرب لا تقرب وجنب الحية افرش ونام"، ابن الزيتون يعرف ارتباك العقرب وأنّها تلدغ كل ما يقترب منها بشكل عشوائي لكن المناعة بفعلها غزت أجساد معظم أهل الضيعة.
هنا تحت الشجرة أثناء "التلميط" وجدت أختي خاتمها الذي ضاع في حصاد سابق قبل أربع سنين، وهنا عرضت "ريكو" أول مسلمة في هيروشيما عندما زارتنا تتعرف عادات المسلمين مهارتها باستخدام عيدان الخشب لالتقاط حبات الزيتون الذي كانت ترى شجرته لأول مرة، وهنا تشاجرنا أنا وأخي بشير فكلّ منا اصطفى لنفسه شجرة سماها باسمه ولا يريد لأحد أن يشاركه حصادها، وهنا أظلّني أخي نذير خوفا على بشرتي من الشمس، هنا أكلنا "المجدّرة" المطبوخة على الحطب وهنا تذوقنا الزيتون نيئا معجونا بتربتنا البيضاء.
أما مرحلة "النبر" فتحتاج سواعد رجال وعصي وسلالم وشقاء صبية يتسلقون أعلى الشجرة يهزون أغصانها ما استطاعوا حتى يكتفوا من ثمرها ويبدأ "التصنيف"؛ مهمة السيّدات الخبيرات، التنقية من الأوراق المتساقطة بفعل النبر
كل ما يؤخذ من زيتون هذه المرحلة للعصر يستحيل زيتا لتأتي بعدها مرحلة "التمشيط"؛ نفرش الأرض تحت الشجرة التي "لمطناها" بساطا من النايلون ونمشط أغصانها بأصابعنا أو بأمشاط مخصصة واقفين نمشي جنبا إلى جنب، تكثر الأحاديث والضحكات في هذه المرحلة لطولها ويغلب على فاعليها عمر الشباب، يجري أبي المسابقات؛ من يملأ "تنكته" أولا له عشرة، وتركض أختي الصغيرة تملأ تنكتها "بكمشات" المحبين وعشرات أبي.
أما مرحلة "النبر" فتحتاج سواعد رجال وعصي وسلالم وشقاء صبية يتسلقون أعلى الشجرة يهزون أغصانها ما استطاعوا حتى يكتفوا من ثمرها ويبدأ "التصنيف"؛ مهمة السيّدات الخبيرات، التنقية من الأوراق المتساقطة بفعل النبر، والتصنيف لأنواع مختلفة من كبيس الزيتون ومخلله والمتبقي الغالب يؤخذ للعصر زيتا، ينام أغلب الصغار في هذه المرحلة في أحضان الجدّات مع رائحة الزيتون وتهويدات عتيقة تورث اللغة وحب الأرض.
أما "التعفير" فهي المرحلة ما بعد الأخيرة وما بعد عمل أصحاب الأرض، لأن شجرة الزيتون مباركة لا ينفد ثمرها بانتهاء حصاد صاحبها لذلك وفي كل مرة ينظر إليها سيجد المزيد لما يقطف بعد، إذن هي مرحلة البركة يمتهنها صبية من الضيعة يدخلون الأرض بعد أن فرغ منها أهلها وقد يستأذنون رغم العرف بالسماح والإذن يجمعون ما يستطيعون ويبيعونه حلالا زلازلا.
أظن أن تلك الحبة كانت من حصة أولئك الصبية، ربما افتقدتهم فلم تسقطها كل هزات القذائف، هكذا هي شجرة الزيتون ترتبط بك وترتبط بها، تحبك وتحبها، تألفها وتألفك، تغدق عليك عاما نسميه "قبيل" لكثرة إقبالها وإقبالك، وتقتر عاما يليه نسميه "محيل" حتى تحفظ قبيلها ومحيلها، رضاها وزعلها، راحتها ونشاطها..
لهذا يعمد بنو صهيون إلى اقتلاع الزيتون سيما المعمر منه، لعلمهم بكونه وطنا لنا وانتماء
تنتمي إليها أكثر مما تنتمي لما يسمى بالحكام العرب، فهي تربتك ونزهتك، شحمك ولحمك، تحمي جهادك وتظل رفاتك، لا ترى معها فقرا ولا جوعا ولا بردا ولا ذلا..
ولهذا يعمد بنو صهيون إلى اقتلاع الزيتون سيما المعمر منه، لعلمهم بكونه وطنا لنا وانتماء.
أذكر أكثر الحملات الخيرية التي تحمست للمشاركة فيها تبرعا ونشرا وترويجا كانت حملة "ازرع زيتونة" التي أطلقتها إحدى الجمعيات السورية في المناطق المحررة فلعلمي أن امتداد خيرها أطول وأعمق وأشد أثرا من سلل غذائية وأكفان توزع وتنسى فهذا تجديد دعوة مني لانتماء جديد نزرعه معا نغرسه ونسقيه ونحصده، نعد له الأيام والأعوام ولا أخفي استيائي من تخيل أن يحرم أبنائي هذا الانتماء ولا يعيشوا مراحل القطاف كلها فيكسبوا حب الزيتون وصحبته على أن أكثر الأطفال انتماء للزيتون هم صبية التعفير، فلا يكتفون بزيتون أرضهم بل كل زيتونات الوطن تحفظهم وتخبئ لهم من بركتها ما ينتظرون حصاده، كما اكتسبوا مناعة مضاعفة ضد كل العقارب وما يشبهها من السام والمؤذي والمرتبك.
والحق يقال مرارا: لا يوقف أهل غزة عن الحياة قصف ولا حرب ولا دمار، ها هم صبية التعفير أتموا المهمة قبل بدء الهدنة، فكيف لأشجار الزيتون أن ألا تبارك رميهم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.