شرع الإسلام الحساب الدقيق للموازنات بين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد بعضها وبعض، والمصالح والمفاسد، كما اعتبر رعاية المآلات وجعلها مقصودا شرعا، بل هي أحد أركان العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية وأحد مكوناتها، وبغير رعاية المآلات لا يمكن للفكر ولا للدعوة ولا للفتوى أن تكون راشدة، ولا محققة لمقاصدها.
ضرب ابن تيمية أمثلة لكل هذه الأنواع من المتعارضات، وهو كلام مؤصل ومفصل، ويعد خلاصة دقيقة وسرد لقواعد حاكمة للتعامل مع هذا التعارض الذي يحصل بين الحسنات والسيئات
رعاية الموازنات
من أفضل من تحدث عن المصالح والمفاسد الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه: "القواعد الكبرى، قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، واستفاد منه الإمام ابن تيمية استفادات واسعة، فعقد فصلا في "مجموع الفتاوى" أسماه: "فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات"، قال فيه: "الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة؛ وإن كان الواجب مستحبا وزيادة، ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى؛ والبر والعمل الصالح؛ والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها، وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها، وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة". مجموع الفتاوى: 20/ 48-49.
قال: "إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات، فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة". مجموع الفتاوي: 20/ 50-51.
وزاد "أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة". مجموع الفتاوي: 20/ 53.
وضرب ابن تيمية أمثلة لكل هذه الأنواع من المتعارضات، وهو كلام مؤصل ومفصل، ويعد خلاصة دقيقة وسرد لقواعد حاكمة للتعامل مع هذا التعارض الذي يحصل بين الحسنات والسيئات، أو المصالح والمفاسد.
النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ
- الإمام أبو إسحاق الشاطبي
رعاية المآلات
كما أن إجراء الموازنات وتحقيقها أمر مطلوب ولازم، فكذلك رعاية المآلات، ولا يمكن للداعية أو المفتي أن يمارس الدعوة أو يقدم على الاجتهاد أو الفتوى في مسألة دون رعاية ما سيئول إليه أمر الدعوة أو ما تتمخض عنه الفتوى، وكل هذا محكوم بمدى تحقيق المقاصد.
ولا أعرف نصا أشهر من النص الذي قاله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في رعاية المآلات، قال: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة". الموافقات: 5/ 177-178. دار ابن عفان.
فانظر إلى هذا الكلام الدقيق، وتأمل كل عبارة فيه، تقف على خطورة المآلات وأثرها في إصدار الفتوى أو ممارسة الاجتهاد، وكذلك تدرك صعوبته وتشابكه، وكيف أن مورده صعب، ولكن مذاقه عذب، وأنه جار على مقاصد الشريعة.
وصف الله الأمة المسلمة بأنها أمة وسط، وكان هذا "جعلا" إلهيا، لا تبديل له ولا تغيير، ولا يسمح فيه بالتجاوز له أو التأخر عنه
المبالغة في الحساب تؤدي لجلب المفاسد وإهدار المصالح
رغم أهمية إجراء الموازنات ورعاية المآلات كما تبين بشكل اتضحت فيه القواعد والحالات، فإن المبالغة في ذلك أمر خطير جدا، والمبالغة أمر مذموم في كل شيء، كما التفريط سواء بسواء، وخير الأمور أوسطها.
ذلك؛ أن إفراط التأمل في الموازنات يؤخر الواجب عن وقته، مما يؤدي إلى تفويت مصالح كثيرة، وحصول مفاسد عظيمة، فالضرر المترتب على العجلة والتهور لا يقل عن الضرر المترتب على التأخر، وفي كل شر، ومفسدة أي مفسدة!.
ولهذا وصف الله الأمة المسلمة بأنها أمة وسط، وكان هذا "جعلا" إلهيا، لا تبديل له ولا تغيير، ولا يسمح فيه بالتجاوز له أو التأخر عنه: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ [البقرة: ١٤٣]. فتأمل قوله: "جعلناكم" فهي إرادة الله وأمره وجعله، فمن أراد أن يفرط أو يفرط فهو مخالف لإرادة الله وجعله الرباني وأمره الشرعي.
ولكن من الذي يبالغ في هذا، وعلى أي وجه تكون المبالغة، وما الآثار المترتبة والأضرار الناتجة عن ذلك؟ وهل يصدق هذا على الدول والأمم كما يصدق على الجماعات والأفراد؟ هذا ما سيتضح في السطور الآتية..
إن تهور الدول إن حدث، أو تباطؤها وتخاذلها وتأخرها عن أداء الواجب بدعوى المبالغة بالنظر في الموازنات والمآلات يترتب عليه من الأضرار ما قد يستمر قرنا من الزمان
مبالغة الدول في إجراء الموازنات ورعاية المآلات
تبالغ كثير من الدول في رعاية الموازنات والمآلات، لا سيما في هذا العصر الذي نعيشه، والذي تملك فيه زمام الأمور دول غير مسلمة: تتحكم في العالم، وتفرض سياستها، وتكيل بألف كيل؛ فتحفظ أفرادها وتضع القوانين لها، وتترك المسلمين هملا وفريسة، بل تتآمر عليهم، وتتظاهر مع أعداء الأمة عليها، وما يحدث الآن في فلسطين من أحداث "طوفان الأقصى" خير شاهد على ذلك.
فتقع كثير من الدول أسيرة الموازنات، وحبيسة رعاية المآلات التي تبالغ فيها كثيرا، فتفوت بذلك مصالح ضخمة، وتجلب بهذا مفاسد أضخم، فلا أشنع ولا أعظم مفسدة من إزهاق الأرواح وإسالة الدماء، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتهديم العمران، وتخريب الدنيا وتهديم الدين!
ولا أبالغ إن قلت: إن تهور الدول إن حدث، أو تباطؤها وتخاذلها وتأخرها عن أداء الواجب بدعوى المبالغة بالنظر في الموازنات والمآلات يترتب عليه من الأضرار ما قد يستمر قرنا من الزمان، وقد يؤثر عقودا طويلة على مكانة دولة من الدول، ويفوتها من الخير والمكانة والريادة ما يمكن ألا يتأتى لها أبدا، فالأحداث فرص، والفرص إذا مرت قد لا تتكرر، وهذا يحتاج لنظر دقيق، وقيادة راشدة، ومبادرة حكيمة.
ومثال ذلك ما نعيشه الآن من حدث جلل في معركة طوفان الأقصى التي انطلقت بضربة قوية للمقاومة في 7 أكتوبر، تشرين الأول 2023م، كيف لو أن الدول العربية والإسلامية وقفت وقفة واحدة؟ وسعت بجد واجتهاد إلى إيقاف هذه الحرب المعتدية؛ فضلا عن أن تتحرك الجيوش للتضامن والقتال مع المقاومة في صف واحد إلى أن يتحرر الأسرى والمسرى والقدس وفلسطين؟
فكيف إذا كان هناك تآمر من غالب الأنظمة العربية، وأن عددا وافرا منها يرجو القضاء على المقاومة، ويسعى في هذا سعيا حثيثا؟ إن هذا لا يؤخر هذه الدول فقط، أو يفوت عليها مصالح فقط، أو يضاعف عليها المفاسد وحسب، وإنما يجعلها عرضة لأن تكون في مزبلة التاريخ إن لم تستدرك وترجع من قريب، ويعرضها للعائن الله وملائكته والناس أجمعين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.