بينما صديقي الإسماعيلي، الشريف الحسيب، في إحدى فرعيات التعليم، على هامش الهامش في المغرب المنسي يكابد الواقع المر صامدا يؤدي رسالة التنوير، لا توفر له الإدارة أكثر من طبشور أبيض وسبورة متهالكة عليها آثار "سنين الصبر وأيامه"، يجتهد في مكافأة المجد من تلاميذه بحلوى يقتطع ثمنها من أجرته الزهيدة المنهكة بالالتزامات.. يخرج وأصدقاءه مضطرين أمام تعنت وزير داخلية سابق وإصراره على إهانتهم، مؤمنين بأن رسالتهم سامية، يغنون له في الشوارع بكل سلم أغنية أم كلثوم:
حكيت لك عن سبب نوحي ونار الوجد في دموعي
وبان للناس ضنا روحي وتعذيبي وتلويعي
رحمني اللي فرح فيا .. وبعد اللوم رأف بيا
وقلبك ما رحمني يوم
ولما اشكي تخاصمني وتغضب لما أقول لك
يا ظالمني..
إن أمر الإنسان تأسيسا على هذا الوصف إلى خير وفعالية ومبادرة ما كانت الفكرة نورا. وإلى ما لا تحمد عقباه من الكوارث والمآسي ما استبدت به المظلمات. إذا أخرج يده لم يكد يراها.
بينما هو كذلك، في قطعة أخرى مغتصبة من العالم ظلم من نوع آخر.. وظلام..
في حصة مدرسية وسط أطفال في مرحلة عمرية مبكرة تتشكل فيها الهوية، وفي وضعيات تعليمية يسودها جو من الانبساط توظف فيه "بيداغوجيا اللعب" ومهارات التمثيل، وكفايات النقل الديداكتيكي.. يعبث بلوحات الشمع لم يكتب فيها شيء كما يقول أرسطو، وبالأوراق البيضاء الصالحة للكتابة كما يشبه عقل الطفل الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، ويبذر في حقل "إراسم" الصالح للزراعة بذور زقوم لا تنتج إلا غلة موافقة للبذرة التي وضعت فيه.
في حصتهم المدرسية هذه، تتسلل إلى الأرواح خيوط ظلمة ترسم تمثلات ترسخها وتثبتها سلوكات البيئة المحيطة.. حكايا الوالدين ورسائل الإعلام وسطوة القانون وسلوك الجيران، ظلمات بعضها فوق بعض، من أين يخرج من هذا الواقع نور؟
يقال إن الفكرة في لب المرء محرك لا يموت، ومصدر طاقة لا ينضب، و"مفاعل نووي" يضخ في الإرادة حوافز سامية، خيرا كانت أو شرا. وهي بنت الروح، مصدقة: "فتكون لهم قلوب يعقلون بها".. عقلها وظيفة قلبية، ليست مجرد خاطرة عقلية تجابه بالإقناع أو تزاحم بغيرها، لا يعجز البدن ولا يتعب عما قدرت عليه. تطيعها ما أن تستبد بالكيان الجوارح.
إن أمر الإنسان تأسيسا على هذا الوصف إلى خير وفعالية ومبادرة ما كانت الفكرة نورا. وإلى ما لا تحمد عقباه من الكوارث والمآسي ما استبدت به المظلمات. إذا أخرج يده لم يكد يراها. عافانا الله.
نعود إلى ما يتسرب من خيوط الظلام في عقول الأطفال، وما يرسم من أساطير هي جذور الصراع وأصله.
قال المعلم: "إن هرون قال لله تعالى إذ أراد أن يسخـط على بني إسرائيل: يا رب لا تفعل، فلنا عليك ذمام (أي جميل) وحق، لأن أخي وأنا أقمنا لك مملكة عظيمة".
وقال: "إن إخوة يوسف إذ باعوا أخاهم طرحوا اللعنة على كل من بلغ إلى أبيهم حياة ابنه يوسف. ولذلك لم يخبره الله بذلك ولا أحد من الملائكة" لقد خاف الله. تعالى الله ـ من لعنتهم..
وقال معلمهم: "إن الله قال لنا بني إسرائيل: من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عيني".
ويضيف معلمهم باكيا: "إثر خراب البيت المقدس كان الله يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول: الويل لمن خرب بيته وضعضع ركنه وهدم قصره وموضع سكينته! ويلي على ما أخربت من بيتي! ويلي على ما فرقت من بني وبناتي! فأمتي منكسة حتى أبني بيتي وأرد إليه بني وبناتي".
وقال: "يد الله مغلولة" و"الله فقير ونحن أغنياء"..
وقال: "تكلم أقدس الأقداس مع بني إسرائيل فقال لهم: اعترفتم بي سيدا وحيدا للعالم، لهذا فسأعترف بكم سادة وحيدين للعالم" وأكد أن " الله أعطى لليهود السلطة على ممتلكات كل الشعوب ودمائها" وأقسم بأغلظ الأيمان: "إنه عمل صالح أن يستولي اليهودي على ممتلكات جوييم (أمي)"، وأكد بما لا يدع مجالا للشك، أن "بيوت الأميين بيوت حيوانات". وأضاف: "رغم أن شعوب الأرض تشبه اليهود في المظهر، فهي في الحقيقة بالنسبة لليهود كالقردة بالنسبة للإنسان".
وأكد: "أن كل النساء غير اليهوديات زانيات" وألح (أبودا شارا): "يمكن لليهـودي أن يغتصب بنت ثلاث سنوات من بنات الأميـين".
كما أكد (جالكوت سميوني): "من يسفك دم أمي يقرب قربانا إلى الله" وصدقه (أبودا شارا): "حتى أفضل الأميين يستحقون الموت"
لقد طمر التحريف والتزوير ما كان من أثارة علم، ونشر لاهوت الأرض، واستحال الدين صراعية مادية وجدلية وكراهية
أكتفي من غابة الخيوط السوداء بهذا الذي ينبئ وحده بالمآل، نصوص دينية هي جذور صراعية لا تنتهي.. لقد طمر التحريف والتزوير ما كان من أثارة علم، ونشر لاهوت الأرض، واستحال الدين صراعية مادية وجدلية وكراهية، وقدم للعالم سادة في الفلسفة، شكل فكرهم الترجمة الفكرية للأساطير المؤسسة للصراع، وقادة سياسيون شكل فعلهم السياسي الانعكاس العملي لهذه الأساطير.
يغمرني التفاؤل وأنا أرى انكباب المعلم الإسماعيلي على درسه، وحيويته في الشرح والتوجيه، ونموذجيته في التربية، فأعتقد أن ورقة جون لوك البيضاء (عقل الطفل) مهما كتب فيها قابلة للمسح والتعديل، وحقل إراسم على الرغم مما نبت فيه من حشائش قابل بمثل هذه الإرادة أن يصلح وينزع شوكه، غير أني ما ألبث أن أنكسر، وأنا أنظر إلى الحشائش متجذرات عاليات أشواكها ممطرات الفضاء بأصناف الأذى منيعة عن الإصلاح موفر لها السقي والرعاية بأنواع الإمداد، فأعود إلى رشدي وأصطف إلى جانب شوبنهاور القائل أن الطبع الإنساني ثابت لا يتغير، وأن مهما كان عمل التربية، فإن الطبع الحقيقي يتغلب دائما. والله غالب على أمره..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.