شعار قسم مدونات

كيف نبني ذواتنا لُغويًا؟

أهم الأسباب وكيفية التخلص من رهاب التحدث أمام العامة (بيكسابي)
إن كان لكل شيء أب فأبو الذكاءات المتعددة، الذكاء اللغوي (بيكسابي)

عطفا على ما بدأناه في التدوينة الأولى فإنني أستأنف القول في الطريق الذي يوصلنا إلى بناء الذكاء اللغوي؛ فكيف نبني ذواتنا لغويا؟!

ولعلنا في هذا المقال نستأنف الإجابة على عبارة الأسد: كيف نقلل الحز ونصيب المفصل؟؟

  • أجعل عبارة عميد الأدب الحقيقي مصطفى صادق الرافعي حامل لواء الفصيحة وأحد أهم الأذكياء اللغويين في القرن العشرين عندما قال: إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة، رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي. وهذه هي الأولى والأخيرة التي يحتاجها كل إنسان ينهد نحو العلا في لغته، وبيانه، وتدفقه القريب من طلب الأسد والبعيد عن أداء الطالبة. النفس الواسعة؛ تلك التي يحتاجها كل واحد منا؛ سواء أكان خطيبا تشيب نواصيه على المنابر، او معلما في حلقة الدرس يحاول بناء الذوات من خلال مداميك العربية العظيمة، أو شيخا في مجلس يصل مريديه بربهم من خلال حروفه التي تسكب لهم في جهازهم العصبي لا جهازهم العضلي، فهم يواجهون الحياة باللغة لا بسواها.
  • القراءة بصوت مرتفع لعيون الأدب العربي القديم، وهي على ما ذكر ابن خلدون في مقدمته البديعة قوله: "سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين: وهي كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها ". وليست هذه الكتب هي التي لا يخرج الإنسان عنها في القراءة والتعلم وعلى علو كعبها في تمتين اللغة وبناء المعجم الخاص بالشخص، إلا أن الكثير غيرها يملك القدرة اللافتة على بناء القدرة والذكاء اللغوي، فأنت تقدر على النظر السابر في المجلدين البديعين في تحفة "المثل السائر" للميداني، فتخطف القول عند نباته، وتجد فيه عبارات مكثفة المحتوى، قصيرة العبارة، مرصوصة الكلمة، ومهيبة الحرف، وسامية الغاية، تعينك على أن تضع السنان بحيث شئت في تضاعيف الكلام. وتقدر أن تنظر نظرة متأنية كتب الرافعي فتملك الحس الأدبي في التعبير، وعذوبة المشاعر في نقل المفردات من حجرات القلب إلى طرف اللسان من غير أن تشعر بثقل لسانك على أذن السامع، وخصصت القراءة بصوت مرتفع رغبة في أن تستقيم العربية الفصيحة على اللسان فتنطق معربا ولو كانت بضاعتك في النحو مزجاة.

ولا أدل على أهمية الحفظ وعلو شأنه في حياة الراغبين في بناء مخيالهم اللغوي، وتمتين تعبيرهم في المحافل المتعدة من تلك المقالة البديعة التي أفردها الدكتور محمود الطناحي في القسم الأول من سلسلة مقالاته حين عنونها بـ "الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية"

  • والعمل على ملء الذخيرة اللغوية من المفردات التي تجعل اللياقة اللغوية عالية والقدرة على التعبير عن مكنون النفس في ميعة المشاعر حاضرة، فتبدأ تنتقل من مفردة أنيقة إلى أخرى، ومن تركيب يصنع لك مشهدا لغويا بارعا إلى استحضار أبيات لأحد الكبار كأبي الطيب أو سواه؛ لكي تجعل الكلام يصعد إلى القول الراسخ. ولا أدل على أهمية الحفظ وعلو شأنه في حياة الراغبين في بناء مخيالهم اللغوي، وتمتين تعبيرهم في المحافل المتعدة من تلك المقالة البديعة التي أفردها الدكتور محمود الطناحي في القسم الأول من سلسلة مقالاته حين عنونها بـ "الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية"، وفي هذه المقالة يتوزع فيها القول في المبدأ والختام على ضرورة الحفظ وأهميته، وكيف أن الأمر أصبح مزريا بأهل العربية؟! خاصة أهل التفسير والحديث، فهو يذكر لك أنه عندما يلتقي بأي طالب متخصص في علوم التفسير، ستجد أنه يبسط لك القول في مناهج المفسرين ونظرياتهم الوقت الطويل، ولكنك لو استوقفته كي يتحدث عن أية من محفوظه، ويذكر متعلقاتها من أقوال المفسرين أو يشفع لمعاني مفرداتها من الشعر وكلام العرب لأحجم وجمجم وحار وأبلس! وما استطاع إلا أن تكون حالته على ما قال محمود شاكر: "وصار لسانه قطعة لحم خرساء تدور في جوبة الحنك". وتبقى كلمة القاضي عبد الرحيم بن علي بن شيث الإسنائي القوصي: "والحفظ في ذلك ملاك الأمر، فإنه يؤهل ويدرب، ويسهل المطلوب ويقرب".
  • التحضير والتجهيز والبناء والإعداد عند الرغبة في الكلام أو التحدث أو التدريس، فالأمر منوط بالعمل على تسميع المادة المراد نقلها للناس، أو العمل على توجيهها من خلال كتابتها، بل تخليصها من الزوائد والحشو على حد تعبير بدر شاكر السياب وهو يوجه الحديث إلى شاعر العراق الكبير عبد الرازق عبد الواحد، فالإعداد والتجهيز يجعل من اللغة حاملة للمتحدث من مثرثر في المحافل إلى لسان قادر على وضع بصمة في نفوس السامعين ويحرك فيهم راكد الدم العربي، وينقلهم من كائنات باردة تملأ المقاعد إلى نفوس تستحق القسم العظيم من العظيم "ونفس وما سواها". ونترك قول الجبناء الذين يختبؤون خلف عبارة النبي العظيم عن ناقته في حادثة الهجرة: "دعوها فإنها مأمورة" لكي يخبروك بضعفهم، ولكن تحت مقولة عظيمة كانت نتيجة لرحلة مليئة بالتجهيز والإعداد والصبر، كان قوامها محمد عليه السلام، فتنتقل هذه العبارة التي كانت نتيجة هذه الرحلة البديعة إلى عبارة يلوكها المخنثون من المتحدثين، ملقين بعجزهم واشتغالهم ببنيات الطريق عن المعالي التي كانت الهجرة وصاحبها.
إعلان

ورحم الله الكبير ابن جني الذي حدثنا في كتابه الممتع عن شجاعة العربية في سداسية تتفرد بها العربية وترقى بها إلى الذرى بين اللغات:

"الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى، والتحريف"، فمن امتلكها استطاع أن يرقى بذكائه اللغوي الذي كان مبدوء بـ "وعلم آدم الأسماء" وثم أمده بـ "علمه البيان" وبينهما كان الخطاب "اقرأ".

وحشاشة القول..

  • إن كان لكل شيء أب فأبو الذكاءات المتعددة، الذكاء اللغوي..
  • وإن كان لكل شيء قلب فقلب الإبداع، الذكاء اللغوي..
  • وإن كان لكل مضمار بداية، فالبداية من الذكاء اللغوي..

فيا أيها القارئ.. أرجو من الله أن أكون في هذين المقالين قد أقللت الحز وأصبت المفصل؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان