شعار قسم مدونات

بين التوعية والتحشيد

مظاهرة حاشدة في العاصمة البريطانية شارك بها الآلاف من مناصري القضية الفلسطينية (وكالة الأنباء الأوروبية)

كل يوم تطل علينا أزمة من أزمات الأمة الطاحنة تجعلنا نعيش في ظلالها مؤثرين ومتأثرين، ولي في الأزمات شأن ربما لا يكون كبقية الناس، وهو أن أكثر ما يشغلني فيها هو التأمل والرصد والتفكر في مجرياتها وفي كيفية تعاطي الناس معها، وقد أقع في أحيان كثيرة في صدام مع بعضهم، عندما أسهو أحيانا فأخاطبهم بخطاب العقل والتحليل الواقعي بينما المشاعر عندهم ملتهبة والعواطف مشتعلة والتعبئة والتحشيد على أشده.

ومن كل هذا أريد القول إن خلاصة رصدي لأحوال الناس أنهم في خضم أزمات الأمة غالبا ما يمتلكون مزيدا من التفاعل والمساندة، مع قليل من الوعي بالقضية التي يتفاعلون معها ويساندونها بكل ما أوتوا من قوة.

إن بناء الوعي يحقق حالة البصيرة التي نحتاجها في كل وقت وحين، لكن تزداد الحاجة إليها في أوقات الأزمات، فعدو أي قضية لن يقف مكتوف الأيدي تجاه مناصري القضية التي يعاديها، بل هو يبذل جهده في تفنيد روايتها وتقويض أسسها وتشويه صورتها

وقد أكدت أزمة حرب غزة الأخيرة هذا التصور عندي، حيث أجد الناس تتفاعل معها وجدانيا وعاطفيا وإغاثيا وإعلاميا وهذا بحد ذاته أمر محمود وحسن ومطلوب لا شك في ذلك، لكني أرصد معه الفقر في التصورات عن قضية المسلمين المركزية القضية الفلسطينية، حيث يظن معظم الناس أن مشكلة القضية الفلسطينية هي مشكلة تحرير الأقصى باعتباره أولى القبلتين وثالث الحرمين فقط، دون وعي بالقضية من حيث تاريخها، ومراحلها، والقوى الفاعلة فيها، وعناصرها من قضية اغتصاب الأرض، وملايين اللاجئين، وآلاف الأسرى، وعملية الإفقار المنظم، وإقامة المجازر والمذابح الدورية، وطبيعة المشروع الصهيوني في المنطقة، وانه ليس متعلقا بأرض فلسطين وحدها، وأسباب النصرة الغربية الغريبة له، وغير ذلك كثير مما يغفل عنه المواطن العربي أو المسلم او حتى غير المسلم، ليقتصر الأمر على التفاعل مع مشاهد المذابح  المؤلمة على الشاشات، دون إدراك لما وراء كل ذلك في الماضي والحاضر والمستقبل.

إن مهمة النخبة لا ينبغي أن تكون محصورة في التفاعل اللحظي والتعبئة والتحشيد كما تفعل الجماهير، مع أن هذا التفاعل والتحشيد مطلوب كما أسلفنا، وإنما مهمتها الرئيسة هو بناء الوعي السياسي عند جماهير الأمة، من حيث التعريف بالقضية في جذروها ورموزها وتحدياتها وفرصها وعوامل قوتها وضعفها والاستراتيجيات الحالية المعتمدة لأعدائها، وكيفية بناء استراتيجيات مناهضة، وتحديد الأهداف المركزة، والوسائل الممكنة، وغير ذلك مما يفترض أن يكون في إطار عملية بناء الوعي الجماهيري، لتلتقي التعبئة مع الوعي، فتكون الحماسة منضبطة بالفكرة، ويكون العمل مؤطرا بالعلم، ويكون الفعل والتفاعل معروفا بمقاصده ومراميه.

إن بناء الوعي يحقق حالة البصيرة التي نحتاجها في كل وقت وحين، لكن تزداد الحاجة إليها في أوقات الأزمات، فعدو أي قضية لن يقف مكتوف الأيدي تجاه مناصري القضية التي يعاديها، بل هو يبذل جهده في تفنيد روايتها وتقويض أسسها وتشويه صورتها، والحماسة الناتجة عن التعبئة والتحشيد فقط لن تستطيع الصمود لوحدها مقابل هذا السيل من التشكيك المنظم والمبهر، والذي إن لم يكسب معركة الانقلاب على القضية فإنه يكسب معركة شق صف أنصارها ومؤيديها، خصوصا وأن إلقاء الشبه المشككة والأخبار المزيفة قد لا تحتاج إلا إلى دقائق أو ثواني معدودة، بينما عملية الرد والمواجهة تحتاج إلى وقت طويل كان من الممكن اختصاره لو أن هذه الجماهير تمتلك الوعي والبصيرة الكافية بالقضية فلا تتأثر، وإن تأثرت فإن وعيها كاف في التعامل معها من خلال السؤال والاستدراك لنقص المعلومات حول القضية.

إن انكفاء الكثيرين عن مناصرة القضايا العادلة ليس عجزا أو كسلا بقدر ما هو افتقاد للوعي المطلوب الذي يبني مفاهيم وتصورات جديدة عنها، ويزيح مفاهيم وتصورات خاطئة لصقت بها بفعل رواية العدو وعدم وجود الجهد المكافئ لها

تقع كثير من الاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية في فخ الاقتصار على التعبئة والتحشيد لتكسب تعاطفا مؤقتا وإسنادا عاجلا، بينما بناء الوعي والبصيرة يكسب القضية فوائد استراتيجية بعيدة المدى، ويحقق بنية فكرية صلبة قادرة على التعامل مع كل الهزات الفكرية والتشكيكية الموجهة للقضية.

إن ما نريده ليس التقليل من التعبئة والتحشيد بل توزيع المهام على القوى الفاعلة، بحيث يعمل فريق على مهمة بناء الوعي والبصيرة، ويعمل آخر على التعبئة والتحشيد، في تكامل لا يمكن أن نعده خيارا بل هو من أوجب الواجبات، في زمان أصبح فيه الفكر والإعلام والتشكيك المنظم لا يقل خطرا عن الصواريخ والقنابل والقتل المنظم.

إن انكفاء الكثيرين عن مناصرة القضايا العادلة ليس عجزا أو كسلا بقدر ما هو افتقاد للوعي المطلوب الذي يبني مفاهيم وتصورات جديدة عنها، ويزيح مفاهيم وتصورات خاطئة لصقت بها بفعل رواية العدو وعدم وجود الجهد المكافئ لها، لا لأننا لا نستطيعه بل لأننا غير واعين بأهميته تمام الوعي.

وأخير أكرر إن بناء الوعي الجماهيري بقضايانا العادلة ليس نافلة، بل هو من فروض الانتصار لها التي لا يسعنا تركها بحال من الأحوال.