قبل فترة التقيت بصديق قديم يحب تبني الآراء، هذه هوايته وذلك شغفه، في كل جلسة جديدة له رأي جديد حول موضوع ما، ذلك الموضوع ربما يعجز عن اتخاذ الآراء فيه كبار القوم وخبراؤهم، إلا أن صديقي العزيز جاهز دائما بتحليله الذي ترافقه دائما نظرة حادة مع رفع الحاجب الأيمن وإنزال الأيسر، تلك النظرة التي تقول لك: أنا عندي مصادر موثوقة. أمر واحد يجمع بين كل آراء صديقنا العزيز، وهو أن كل ما يقوله ويكتبه يجب أن يكون غير عادي وغير مسموع به ومخالفا لكل ما يمكن أن يتوقعه عاقل، ذلك لأنه يجب أن يكون مختلفا ولا يتبع رأي "العامة".
هناك وجه مقلوب للعملة الإمعية هذه، مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، وهو ذلك الرجل الذي يحدد رأي الناس رأيه أيضا، لكن بصورة سلبية، فإذا رأى الناس سلكوا اليمين سلك اليسار، وإن صعدوا هبط، وإن أشادوا ومدحوا شجب واستنكر
الإمعة، لفظة في اللغة العربية تطلق على الرجل الذي يقول لأي أحد "أنا معك" دوما، والفعل منها "أنمع"، ويبدو أنها أتت من إدغام "ن" أنا مع "م" مع، ومع زوال حرف العلة وإضافة التاء صارت إمعة.. على وزن أفعلة (كثير فعل الشيء) المهم.. هذا الرجل الإمعة لديه محدد أساسي لاتخاذ الآراء، وهو رأي العموم، رأي الشارع، رأي الأغلبية، وهذا الرأي يؤثر عليه إيجابيا، بمعنى: يجعله يتخذ نفس التوجه الذي عليه القوم، فإذا "أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا" كما في الحديث.
كلنا يعرف شخصيات كهذه، وتعامل مع عشرات ممن يقوم رأيهم على رأي العموم محددا أساسيا، وهذا ليس بالضرورة سيئا، لكن الفكرة التي انتقدها الحديث الشريف هي عقلية محاولة الاتفاق مع المجموع حتى لو كان مخطئا. هناك وجه مقلوب للعملة الإمعية هذه، مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، وهو ذلك الرجل الذي يحدد رأي الناس رأيه أيضا، لكن بصورة سلبية، فإذا رأى الناس سلكوا اليمين سلك اليسار، وإن صعدوا هبط، وإن أشادوا ومدحوا شجب واستنكر. هذا الأنضدة (والتي أصوغها بذات الطريقة من "أنا ضد") هو أيضا رهين رأي الجماهير، فالمحدد الأساسي لديه شيوع الرأي، فإذا كان الرأي شائعا ومتداولا ومقبولا، فالعكس رأيه، حتى لا يكون من القطيع، وهو – من حيث لا يدري- انضم لقطيع آخر، فأول قطيع يصيح " ماااااع" والثاني يصيح "لاااااااا".
يجب أن نتذكر أن الصحيح يا سيدي الكريم وسيدتي الكريمة هو الصحيح، ورأي الناس لا ينبغي أن يكون محددا للصحة أو البطلان، لا سلبا ولا إيجابا، فآراء العموم ليست جزءا من بنية الأفكار
ينضاف إليهم -إن شئت الإضافة- فئة لا تتخذ الآراء أساسا، فهي ليست مهتمة باتخاذ موقف من أي شيء إطلاقا، تقف دائما على الحياد، وتنتظر دائما المزيد من المعلومات لتتخذ قرارها الذي لا يأتي ولو انتظرته، تعتذر للطرفين في أي نزاع، وتستجلب الحجج لكلا المتناقشين حول أي مسألة. مسالمون لا يدخلون في معامع التحيزات، أو على الأقل هكذا يظنون. فالظالم والمظلوم، القاتل والمقتول، المخطئ والمصيب في ذات المقام. وهم بذلك يهربون من الاصطفاف حتى مع الحق، ويخشون الائتلاف حتى مع الحقيقة. ولا أدري إن كنت سأسمي هذا النوع من الأشخاص، فأنا بتسميتهم قد أقترف أخشى ما يخشونه وهو اتهامهم بالوجود، وأخرق أقدس ما يقدسونه وهو التلاشي والامحاء.
وإني أسمعك الان تسأل: أليس من الطبيعي أن يتأثر الناس بالناس؟ أليس كل قرار نتخذه في النهاية متأثرا شيئا ما بغيرنا؟ ولو كان ذلك محتوما فهل نخالف الناس أم نوافقهم؟ ولو كانت هذه هي الحالة فلم نعكر على أنفسنا صفو أفكارها ونحاكم مصادرها؟ وهذه أسئلة مشروعة صحيحة، لكننا يجب أن نتذكر أن الصحيح يا سيدي الكريم وسيدتي الكريمة هو الصحيح، ورأي الناس لا ينبغي أن يكون محددا للصحة أو البطلان، لا سلبا ولا إيجابا، فآراء العموم ليست جزءا من بنية الأفكار، وتحرير أنفسنا من رأي الناس بنوعيه، ضروري ليكون تفكيرنا متعلقا بالأفكار نفسها، لا بما قاله الناس حول الأفكار.
أما أولئك الذين لا يودون الإدلاء بآرائهم خشية التصنيف أو التعنيف، فهم يمرون من الحياة مروا لا أثر لهم فيها، لا يبنون بيتا ولا يهدمونه، ولا ينصرون مظلوما ولا يظلمونه، ولا يزرعون زيتونا ولا يقلعونه، ضيوف على هذه الأرض لا تعرفهم ولا يعرفونها. لكن جريمتهم الكبرى في نظري هي أنهم لم يقدروا نعمة وجودهم ففضلوا الزوال عليه.