في مجتمعاتنا، نحلم باليوم الذي يشهده تاريخنا من جديد؛ عصرًا ذهبيًا مليئًا بالعلم والتقدم والإبداع على أيدي شباب المستقبل، ومع كثرة المشاكل المنزلية، واختفاء الدعم اللازم، والعنف في نشأة الشباب، أصبح من الصعب جدًا تحقيق هذا الحلم بسبب هذه القضية الاجتماعية التي يعاني منها العديد من الشباب في صمت، وسببها دائمًا يصب في كنف العائلة. فالأسرة إما تنمي مهارات الشاب وتحتضن أوجاعه وترشده إلى طريق الصواب، وإما أن تسمم إمكاناته منذ الصغر، وتولد عنده عُقدًا نفسية لا حصر لها. وللأسف الشديد، هنالك العديد من الأمثلة الواقعية البائسة التي تعكس الأثر السلبي للأهل في نشأة الأبناء.
المشاكل الزوجية المستمرة تؤدي إلى إصابة الطفل بالتوتر والقلق والخوف من مغادرة أحد الوالدين بسبب هذه المشاكل.
من أهم العوامل التي تحدد العلاقة السديدة بين الأبناء والآباء هو مدى استقرار الحياة المنزلية، فليس من المعقول أن تكون هناك مشاكل متكررة ومستمرة بين الزوج وزوجته وقد تصل أحيانًا إلى العنف ويكون الطفل بحالة طبيعية.
المشاكل الزوجية المستمرة تؤدي إلى إصابة الطفل بالتوتر والقلق والخوف من مغادرة أحد الوالدين بسبب كل هذه المشاكل. بالإضافة إلى أن الوقت الذي يقضى مع الأبناء في هذه الحالة يكون قصيرا جدًا بسبب الغضب والانفعالات العصبية التي قد يفجرها الأب أو الأم على الأطفال، لذلك ينعدم التواصل داخل العائلة.
كما أن هذه المعضلة تكون سببًا في الإهمال الدراسي بسبب فرط التفكير في العلاقة المتدهورة بين الأم والأب، بالإضافة إلى عدم وجود البيئة الصالحة للدراسة. علاوةً على ذلك، فإن كل هذه المشاكل تشكل عقدة اجتماعية لدى الطفل، فمثلًا، نراه يواجه صعوبة في التعرف على الأصدقاء والتأقلم مع الناس، ويفضل البقاء في العزلة بعيدًا عن الأنظار.
وللأسف الشديد عندما يكبر ذلك الطفل المتقوقع، فهنالك احتمالية كبيرة بأن يأخذ عادات والديه في التعامل ويطبقها في حياته الشخصية ويفجرها في زوجته وأولاده، وهذه الصورة ستكون عملية متكررة في حياة كل طفل لأن الأساس متدمر، والأساس ينبع من البيت بين يدي الأم الأب، إذا ضاع هذا العامل ضاع المستقبل.
بعيدًا عن المشاكل الزوجية وآثارها التي لا حصر لها في نشأة الشباب، فمن الجدير بالذكر أن العنف الجسدي واللفظي له آثار فظيعة في نفسية وأفعال الطفل. تخيلوا هذا المشهد، طفل قادم عند والدته بعد عودته من المدرسة وهو في غاية الفرح لحصوله على علامة مرتفعة. في الحالة الطبيعية، يفترض أن الأم تحتضن طفلها وتقول له عبارات لطيفة لتزيد ثقته بنفسه وتفرح لأجله. لكن للأسف الشديد، في الحالات الأخرى، تغضب الأم من طفلها وتنزل عليه بإهانات ومسبات لعدم حصوله على أعلى علامة. المصيبة في هذا المشهد، أن الأم حاضنة الأوجاع، تقصف قدرات طفلها وتمسح ثقته بنفسه في لحظات وتقارنه بزملائه أو حتى إخوته، وعندما يحاول الابن إرضاء والديه بشتى الطرق، تنزل عليه اللعنات من قِبل والديه لما ينقصه ليكون الأمثل مثل فلان وفلان.
المجموعة القصيصة "يوميات تلميذ حزين" للكاتبة آمنة الرميلي الوسلاتي تناقش الجانب المخفي في حياة الطلاب المنزلية التي تكون غائبة عن أذهان المعلمين، والتي تكون عاملًا من أهم العوامل التي تجيب على أفعال الطالب السلبية في الحرم المدرسي.
برأيكم، بعد سماع الابن كل هذا الكلام الجارح من أقرب الناس إليه، هل سيعود كما كان سابقًا؟ بالطبع لا، سيظل في باله أنه ناقص في كل شيء ولا يمكنه أن يتطور مهما كان.
في هذه الحالات، ينعدم التواصل والتفاهم بين الأهل والطفل بسبب المعايير المرتفعة التقليدية عند الأهل الذين يتوقعون من ابنهم أن يكون هذا وذاك. كما أن الثقة تتلاشى بين الابن ووالديه ويرجع ذلك إلى المعاملة الرديئة الذي تعود عليها الطفل من قِبل والديه. لذلك، من المحتمل أن يرتكب المصائب بعيدًا عن أنظار الأهل خوفًا من ردود أفعالهم، فقد لا يميز بين الخطأ والصواب نتيجةً لقلة التواصل في المنزل.
وهنالك العديد من الأعمال الأدبية التي تسلط الضوء على هذه القضية لأهميتها في تكوين الطفل. فمثلًا، المجموعة القصيصة "يوميات تلميذ حزين" للكاتبة آمنة الرميلي الوسلاتي تناقش الجانب المخفي في حياة الطلاب المنزلية التي تكون غائبة عن أذهان المعلمين، والتي تمثل عاملًا من أهم العوامل التي تجيب على أفعال الطالب السلبية في الحرم المدرسي. فقصة "يوميات تلميذ حزين" تفضح معاملة الأب السلبية لابنه، والبيت غير المستقر وأثره على نفسية الشاب. فعندما سأل الشاب والده رد عليه: "الكلب! أيكذبني؟ هذا ما نربحه من مدارس الشؤم، قلة الحياء" (ص30) بسبب استفسار الولد عن فعل قام به والده وهو من حقه أن يسأل ويعرف ما يحدث من حوله، أهانه والده وسبّه؛ من المفترض أن يقدم له والده فهمًا بطريقة إنسانية عن أسباب اختيارات معينة في الحياة، ولكنه اعتبره أمرًا عيبا في غاية الشؤم وعدم الحياء.
هذا العنف اللفظي المتكرر وتدهور الحالة المنزلية فجر الشاب في نهاية القصة عندما استخدم العنف في المدرسة تجاه بعض المعلمين لسوء تفاهم ما. هذا الشاب يرمز إلى العديد من شباب العالم الذين يعانون من سوء التفاهم والعنف المنزلي، مما يرغمهم على أفعال طائشة سببها يكون في تقوقع المشاعر وانفجارها في لحظةٍ معينة بعد عناء.
يجب على الأهل أن يحرصوا على بناء علاقة مع أطفالهم أساسها الثقة وعدم الخوف والحرص على فتح مجال للتساؤل وإبداء الرأي والمناقشات
أغلب هؤلاء الأطفال والشباب يلجأ إلى التنمر لفرض ذاته على الآخرين والشعور بالقوة والهيمنة لكسب هذا النقص واصطناع الثقة بالنفس. ووفقًا لدراسة أجراها باحثون من جامعتي واشنطن وإنديانا، تقول الدكتورة نيريسا باور: "الآباء قدوة مقنعة وسيحاكي الأطفال سلوك الوالدين، ويريدون أن يكونوا مثلهم. قد يعتقدون أن العنف جيد ويمكنهم استخدامه مع أقرانهم. بعد كل شيء، قد يعتقدون، "إذا كان بإمكان أبي القيام بذلك، فربما يمكنني ضرب هذا الطفل لشق طريقي". و"عندما ينخرط الآباء في العنف، قد يفترض الأطفال أن العنف هو الطريقة الصحيحة للقيام بالأشياء".
وقال تود هيرينكول، الأستاذ المشارك في العمل الاجتماعي بجامعة واشنطن والمؤلف المشارك للورقة المنشورة في العدد الحالي من مجلة طب الأطفال، أن هذه الدراسة تدعم فكرة أن عنف الوالدين يمكن أن يؤدي إلى العنف بين الأطفال وأقرانهم. "يطور الأطفال عقلية عندما يرون كيف يتعامل الآباء مع المشاكل. إنه نص يعتمد على الملاحظات المبكرة في المنزل." هذه الدراسة هي واحدة من أولى الدراسات في الولايات المتحدة التي تدرس على وجه التحديد العلاقة بين تعرض الأطفال لعنف الأهل والتورط في التنمر. كما أنه من أوائل الذين قاموا بتفكيك التنمر إلى عدوان جسدي (الضرب والدفع وأشكال أخرى) والعدوان اللفظي (مضايقة الأقران وكونهم لئيمين ونبذهم).
لذلك، يجب على الأهل أن يحرصوا على بناء علاقة مع أطفالهم أساسها الثقة وعدم الخوف والحرص على فتح مجال للتساؤل وإبداء الرأي والمناقشات، بالإضافة إلى إرشادهم لطريق الصواب بعيدًا عن العنف والمقارنة المتكررة، لبناء جيل قوي في صحته العقلية والنفسية ويقود المستقبل للازدهار والعلم والتطور.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.