أن تكتب يعني أن تعيش فالكتابة فعلٌ استثنائيٌّ يبعث الروح في الجامد، ويرسل النفس في أفقٍ حيٍّ متجدّد، وهي فعلٌ استثنائيٌّ لأنّها كالحياة، فالكاتب بطلٌ خارقٌ استطاع أن يحيا، استطاع أن يُسقط الحروف الجامدة على الورق الباهت فينفخ فيها من روحه، ويبثّها من شجن نفسه، ويُنطقها من حديث قلبه، وهو خارقٌ حقًّا لا سيما إذا كان مثلي ينتمي إلى أمةٍ تبدو الحياة فيها ترفًا لا يقدر عليه كثيرون..
فأن تحيا من دون أن يدكّ العدوُّ مدينتك بالصواريخ المدويّة صباح مساء.. أن تحيا في بيتٍ يرتفع فوق جدرانه سقفٌ لا يتهاوى فوقك.. أن تحيا آمنًا وتصبح سالمًا عندك قوت يومك إنّ هذا لترفٌ لا يملكه أبناء أمةٍ تصبح وتمسي على أخبار الموت..
هل يمكن أن يبقى كاتب تحت ضغط السلاح وفوضى الحواس وغربة الوطن؟ لقد كُسِرَ القلم وآن للروح أن تكتب حروفها في ميدان الحق وجموع أهله
الكتابة فعلٌ استثنائيٌّ كالحريّة.. تلك التي تشتاقها الروح لتغدو جوهرها وتلتحم بأصل جِبلَّتها السّماويّة الخالدة، فتخرج من الفاني وتعانق الأبديّ، ولا تُسلّم قِيادها لمادّةٍ تتفنّن في عرض نفسها عليها في صورٍ شتّى تُسمّى الحياة الدنيا، تلك التي ينعتق فيها المرء من كلّ الأعمال اليوميّة ويخرج بين الجموع هاتفًا لقضيةٍ يؤمن بها أو مردّدًا لمبدأ يعيش لأجله فيجد نفسه بين تلك الجموع يذوب ليظهر، ينصهر ليبدو، يحترق ليلمع.. يقسّم قلبه الواحد إلى مئات يمنحها كلّ من يلتقي فيرتقيان معًا إلى عالمٍ لا يؤمن فيه أحدهم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه.. ذلك العالم الإيمانيّ العجيب الذي يُضفي بأصله لا بتمامه ولا بكماله ظلاله على العلاقات فيجعلها ترتبط بالحب كارتباطها بالإيمان فيغدو الحب إيمانًا والإيمان حبًّا.
وبقدر ما أصبحت الكتابةُ حِرفةً يمارسها كلّ من لا عمل له بقدر ما فقدت من معناها الكثير، إنّها اليوم مِهنةٌ تُدرّس، وحرفةٌ تُمتهن لا موهبةً وإلهامًا فيه بعضٌ من فيض الروح وسيلان القلب على الورق.
وهل يمكن أن يبقى كاتب تحت ضغط السلاح وفوضى الحواس وغربة الوطن؟ لقد كُسِرَ القلم وآن للروح أن تكتب حروفها في ميدان الحق وجموع أهله، أجل هناك تحت أنقاض مدينةٍ مهدّمة ثمّة حكايةٌ طويلة طويلة يمكننا أن نقرأها ونكتبها بقلوبنا، وأن نعيشها بحروفها المتناثرة أشلاء كجسد طفلٍ غزّاويٍّ يحاول والده أن يجمعه ليُشكّل منه جسمًا يُقبر فيكون له مكاناً في الأرض يبكي بجانبه ما شاء له القلب أن يبكي.
لا يمكن للكاتب أن يكتب تلك الحرقة ولو اجتمعت له آلة الفصاحة والبيان وأوتي الحكمة وفصل الخطاب بل لو أنّه كان ينطق بألف لسان ما استطاع أن يحكي لوعة أمّ ذلك الطفل عندما استيقظت من موتها المحتوم فوجدت كف ابنها في كفها وجسده أشلاءً.. وأنّى له؟!
إنّ حكاية الوجع التي نحياها بأرواحنا العالقة بين السماء والأرض في زحمة الشهداء الصاعدين حكاية بدون راوٍ، ومأساة بدون شاعر، تمامًا كما أنّها معركةٌ بدون سلاح، يخوضها الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيون في بيوتهم مع أعتى آلات الحرب بجبروتها وكبريائها وطغيانها!
إنّ صوتًا واحدًا من حروفنا يمكنه أن يُشفي الجراح ويرقي أجسادنا المنهكة ويعيد إلينا الروح، ويمنح الكتابة فرصةً جديدةً لصناعة الحياة ونفخ الروح وبثّ الأمل
لقد فقدت الكتابة معناها بل لعلّها باتت ترفًا نحياه نحن -المُترفين- الذين نملك القدرة على مشاهدة أخبار الموت من وراء الشاشات، نملك القدرة على عناق الأحبة والبكاء على جراحهم من خلف هذه الشاشات الصمّاء التي وصلت العالم وقطّعته!!
إنّها جزءٌ من ترفنا نحن الذين نفقد كلّ يومٍ جزءًا من معنانا الإنساني بفقد طفلٍ من أطفال غزة المنهكة من الخذلان، ففي كلّ ساعةٍ يفقدون ونفقد، يفقدون يدنا فوق أيديهم ونفقد شعورنا بالنبض في قلوبنا، يفقدون صوتنا مع أصواتهم ونفقد صدى أصواتنا الخرساء، يفقدون دماءهم وأرواحهم وبيوتهم وأمانهم وسكينتهم ونفقد إنسانيتنا وولاءنا ويتغوّل فينا وحش الفردانيّة فنزداد دورانًا حول الأنا المترفة.. نتألّم فنترجم الألم حروفًا لنفرّغ الحزن على الورق، نعم، لقد غدت الكتابة ترفًا، ولم يعد لحروفنا مكانًا في عالمٍ يلهث وراء القوة، ويعبدها أو يكاد!!
غير أنّ صوتًا واحدًا من حروفنا يمكنه أن يُشفي الجراح ويرقي أجسادنا المنهكة ويعيد إلينا الروح، ويمنح الكتابة فرصةً جديدةً لصناعة الحياة ونفخ الروح وبثّ الأمل، إنّه صوت الإيمان في قلوبنا ذاك الذي ما انطفأت جذوته مذ اشتعلت تلك الجذوة الخالدة في أرواحنا تلك التي يخافها عالم القوة ذاك، ويستعلي ويتكبر رعبًا من عودتها وكتابتها وقراءتها واتقادها في الأرواح معرفةً وحماسًا "الله أكبر".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.