ما زال العالم العربي يسجل خيباته مع استفحال وتيرة استهداف المستشفيات والمدنيين في غزة، وما زالت الحرب الجارية على الأراضي الفلسطينية المحتلة تأخذ بعدها الدولي بعيدا عن إطارها السياسي والإنساني، وفي خضم السجالات الدولية حول إمكانية البحث عن هدن استثنائية لتمكين المساعدات الدولية من الدخول لقطاع غزة، تتجدد المخاوف من استهداف المستشفيات وبالتحديد مستشفى القدس الذي يحتمي به أكثر من أربعة آلاف مدني، في الأثناء تقوم مسيرات تجوب عواصم العالم منددة بالجرائم الصهيونية، عبر استهداف الصهاينة في ملاذاتهم الآمنة لدى الغرب، حيث كان للغضب الشعبي تجاه الاستلاب الممنهج للحق الفلسطيني في الحرية والعدالة والإنسانية الأثر البالغ في تغيير موازين الضغط الدولية، وقد أبرز مقتل سائح صهيوني في مصر، واقتحام السفارة الإسرائيلية في تركيا وأحداث داغستان الأخيرة، الانتكاسة المدوية التي منيت بها السردية الصهيونية، فما شكلته عملية طوفان الأقصى من تحوّلات في المنطقة على الجانب الاستراتيجي والاستخباراتي لأعتى "جيش مدجج بالأسلحة الحديثة" يعد مثالا فاضحا لهشاشة الأسطورة الصهيونية حول التفوق العسكري والحضاري، إذ نحن اليوم أمام مرمى حجر من عالم متغيّر ومتصارع بين من "يملك الحق" في الدفاع نفسه، ومن له القدرة على "تطويع الحق في المقاومة" ضمن لوائحه النيوكولنيالية.
بلونها الأبيض والأسود بقيت الكوفية رمزا ثوريا يجوب العالم العربي والغربي، وقد تسابق المشاهير في المعمورة لإعلان تضامنهم مع المسألة الفلسطينية، عبر لبسها في المحافل الدولية واللقاءات الرسمية
استعادة الكوفية المقاومة
كانت صورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وهو يلبس كوفيته تجوب العالم كقائد ثوري، وقد رسمت خيوط الأبيض والأسود للكوفية الفلسطينية سياقا تاريخيا مفعما بمقاومة الاحتلال الصهيوني، ومع الانتكاسات التي مني بها العرب في حروبهم ضد إسرائيل، وتراجع الخطاب المناهض للاحتلال ضمن اتفاقات التسوية، حشرت الكوفية وفق نتاج ثقافي فلسطيني تغزوه المهرجانات الصاخبة، وقد تأثرت صورة الكوفية كونها رمزا ثوريا لمقاومة الفلاحين الفلسطينيين ضد الاحتلال البريطاني، حين تم ارتهانها واختزالها ضمن نخبة سياسية ساهمت بشكل سافر في تقديم التنازلات للصهيونية، وما أقدمت عليه السلطة في رام طيلة عقود لم يكن بمعزل عن استهداف أحد أهم رموز المقاومة في العالم، فأن تحمل سلاحا ضد محتل غايته تهجيرك أو إبادتك بشتى أنواع العنف المحظور دوليا، لهو أمر كان لوقت قريب وبالأدق قبيل "عملية طوفان الأقصى" يحمل دلالات مناهضة الفلسطيني الثائر والمقاوم للغطرسة الإسرائيلية.
بلونها الأبيض والأسود بقيت الكوفية رمزا ثوريا يجوب العالم العربي والغربي، وقد تسابق المشاهير في المعمورة لإعلان تضامنهم مع المسألة الفلسطينية، عبر لبسها في المحافل الدولية واللقاءات الرسمية، وإلى جانب الأعلام الفلسطينية ظلت الكوفية تقارع السردية الصهيونية في عقر ملاذاتها الآمنة ببثها الذعر واستعادتها للخطاب الثوري المحقق لحرية وكرامة الفلسطينيين، وما أحدثته عملية طوفان الأقصى كان نقلة كبيرة في فضح التواطؤ الغربي/العربي مع مشاريع الصهيونية وجرائمها بالمنطقة، فالمسيرات التي تجوب شوارع العواصم الغربية الداعمة للاحتلال، تحمل في طياتها الرفض الكبير للهجمة الشرسة لترسانة القانون المؤسسة الاستعمارية الغربية، ضد كل ما هو فلسطيني وداعم له.
تعود الكوفية بلونها الأحمر المسجى بسمات العزة والكرامة، والانعتاق والحرية، والمقاومة ورفض الخنوع، وبأصواتها ووعودها الصادقة، وبأسمائها المستمدة من تراثها العربي والإسلامي، وبحسها الإنساني في إكرام الأسرى ونبذ الإرهاب الصهيوني، إلى حيث كانت نقطة البداية الفاصلة، بين أن تكون محتلا غاصبا عنصريا، أو أن تكون فلسطينيا مقاوما بكوفيته وكنيته، ولتحقق الوعد بزوال الاحتلال الصهيوني الغاشم.
إنّ الملثم بأسمائه وكنياته المختلفة، كان ناطقا لكتائب القسام، أو فلسطينيا يرمي الحجارة في وجه الدبابات الإسرائيلية المحتلة في الضفة وغزة، بات أيقونة حقيقية للحق الفلسطيني في المقاومة، وللشرعية التي سلبتها منه الآلة الدعائية الصهيونية طيلة سنوات الانبطاح
الأيقونة الفلسطينية
في زمن الخذلان الجاثم على الحلم العربي بالحرية والكرامة، بقي الفلسطيني يحمل منذ انتفاضته حجرا بيده ووجهه ملثم بكوفيته، ليتغير التضامن العربي الرسمي من داعم للمسألة الفلسطينية، إلى متجر صهيوني توشك نخبته على إعلان إفلاسها السياسي والأخلاقي، ولعل ما يزيد من ضراوة استهداف الفلسطينيين وتكالب الغرب ومؤسساته عليهم، حرص الثوار على استدامة نفس المقاومة عبر خطاباتهم التحفيزية والتحريضية، وتطورهم الملحوظ في صناعة السلاح، ولعل المسؤولية التي تحملتها المقاومة منذ أن آمنت بمصيرها، لم تتوقف عند حد تبادل الأسرى والمساعدات الإنسانية التي يتهافت العالم على جعلها "هبة" للمحاصرين بغزة، بل كان لكوفية الملثم الفلسطيني دعوته الأبدية الخالصة في استعادة الكرامة العربية والإسلامية للأمة.
إنّ الملثم بأسمائه وكنياته المختلفة، كان ناطقا لكتائب القسام، أو فلسطينيا يرمي الحجارة في وجه الدبابات الإسرائيلية المحتلة في الضفة وغزة، بات أيقونة حقيقية للحق الفلسطيني في المقاومة، وللشرعية التي سلبتها منه الآلة الدعائية الصهيونية طيلة سنوات الانبطاح، وكمائن المقاومة للاحتلال لم تعد تربكه وحده فحسب، بل قلبت موازين اللعبة الغربية لتهجير ما تبقى من الفلسطينيين، وما يتوعده الملثم عبر مصادرته الخطاب الإسرائيلي الذي لم يراوح قصف المدنيين والاعتقالات التعسفية بالضفة، لا يكون إلا واقعا نافذا كاسرا لغطرسة قوى الشر العالمية التي تقودها الإمبراطورية الأمريكية، ضد قلة مرابطة من المقاومين في سجن هدمت تحصيناته.
أن تتحرك الجيوش العربية المرابطة في ثكناتها وعروضها المهرجانية لتحرير الأقصى لا سمح الله، لهو معجزة تكاد تنبئ بخروج المسيج الدجال من أسره، وما توعده القادة العرب في قمتهم العربية لم يتجاوز سقف الاستنكار والدعوة للوقف الفوري لإطلاق النار. تستقبل الجماهير الحرّة كلمات الفلسطيني المناهض لنظام الفصل الصهيوني، بصدق وحماس لوعود المقاومة في الصمود والتصدي للعدوان المستمر على شعبها الأبي.
ومع احتمالية امتداد رقعة الاقتتال والصراع، تزداد المسافة بين المناهضين للاحتلال الصهيوني والداعمين له، وما بين الفريقين تُفتقد "الكرامة الأخلاقية" التي هيمن عليها الفلسطيني الثائر، ووحدهم الملثمون بلون المقاومة والحرية، من يبعثون في الأمة نَفَسها وحلمها في الوحدة والانعتاق، عبر رفع معنوياتها بتلك الفتوحات التي تتكالب عليها وسائل الإعلام الدولية، ورعبا في نفوس المحتلين، ولعل وصف قناة العربية للشهداء الفلسطينيين بـ"القتلى" لا يرسم إلا مسارا مسدودا لأرباب التطبيع، فالفلسطيني اختار الحرية والكرامة التي ضيعتها أنظمة تتشدق بترهات انتسابها للهاشمية، وخدمتها للمقدسات الدينية، وهي معتكفة على بيانات الشجب والانتصار للمحتل، وإن أرادت دعم الفلسطينيين لا سمح الله، فإنها لا تتوانى في التآمر على المقاومة واغتيالها داخل أراضيها، كما حدث مع محمود المبحوح في دبي عام 2010، من طرف الموساد الصهيوني، غير أنّ المقاوم بسبابته ورخاوة صوته وكوفيته، يرسم صورة الملثم وهو يزف لأحرار العالم انتصارات المقاومة وصبرها ضد العدوان الغاشم للصهيونية، في وقت يحتفل خدام الحرم بخيبات الحضارة الغربية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.