يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، هو من أمات كتب اللغة والأدب، صنفه الإمام أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي (توفي 429 ه)، الذي عاش في القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري.
كان الثعالبي.. أول أمره.. فراء يخيط جلود الثعالب، فلذلك غلبت عليه النسبة لصناعته التي مارس في صغره.
بعد ذلك أخذ الثعالبي الصدارة في اللغة وفنونها، فصنف كتبا كثيرة زادت على المائة والثلاثين، منها "محاسن الملوك"، و"أفراد المعاني"، و"أنس المسافر" و"فقه اللغة"، ومن كتبه أيضا "يتيمة الدهر" الذي أحدثكم عنه في هذه التدوينة.
بنو حمدان كانت لهم إمارة أسسها ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء (توفي 358 هـ)، منطلقة من الموصل إلى حلب، ومتوغلة في بعض بلاد الروم حينئذ.
يتيمة الدهر كتاب قرر الثعالبي أن يجمع فيه المنتخب والمستحسن من شعر معاصريه، ومن شعر الذين ذاع نجمهم في زمانه وقبيل زمانه، كالمتنبي وأبي فراس والوأواء وأبي العباس الكندي وأبي الحسن بن يونس، وغيرهم.
كان الثعالبي ذكيا في تأليفه هذا، فقد رأى أن المتأخرين يجمعون أشعار المتقدمين: الإسلاميون مثلا جمعوا أشعار الجاهليين، والعباسيون جمعوا أشعار الإسلاميين والجاهليين، فكأنه قال: "إذا كان سيأتي بعدي قوم يجمعون شعر أهل زماني، فسأعينهم وأكون سباقا لذلك قبل أن يحين وقته"، فقد عرف الثعالبي أن الذين سيأتون من بعده، سيجمعون شعر معاصريه بوصفه تراثا لهم، فلما عرف الثعالبي أن المتأخر لا محالة سيجمع شعر المتقدم، بادر فكان سباقا لجمع شعر المعاصرين إذ ذاك، فأراد أن يعين الأجيال التي ستأتي فجمع لنا شتيت شعر معاصريه، مصنفا كتابه "يتيمة الدهر". وسمى كتابه اليتيمة لأنه كلام قوم مضوا إلى ربهم فهم آباء قصائد تركوها حية بعد موتهم فهي يتيمة، لأن الشعر من بنات أفكار الشاعر، فيذهب الأب وتبقى بناته بعده في الكتب والمجالس، يتذاكرهن الناس، فهن يتيمات لأن أباهن (مبدعهن) تركهن ومضى، ومن هنا جاء اسم كتاب الثعالبي "يتيمة الدهر".
قسم الثعالبي كتابه أربعة أقسام، سأحدثكم في هذه التدوينة عن قسم منها وهو قسم محاسن أشعار بني حمدان.
وبنو حمدان كانت لهم إمارة أسسها ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء (توفي 358 هـ)، منطلقة من الموصل إلى حلب، ومتوغلة في بعض بلاد الروم حينئذ.
أشهر أمراء الدولة الحمدانية على الإطلاق هو علي بن أبي الهيجاء المعروف بسيف الدولة، وقد كان سيف الدولة هذا كان جوادا كريما، وكان شجاعا بطاشا بأعداء الدولة، وقيل إنه لم يجتمع على أمير في زمانه مثل ما اجتمع على بابه من الشعراء والنخبة المثقفة حينئذ.
وقد كانت مدائح الشعراء له كثيرة، حتى إن بعض أهل الأدب جمع من تلك المدائح عشرة آلاف بيت!
- ومن أكثر من مدحه أبو الطيب المتنبي، في قصائد كثيرة، حيث يقول من قصيدة له:
نهبت من الأعمار ما لو حويته .. لهنئت الدنيا بأنك خالد
فأنت حسام الملك والله ضارب .. وأنت لواء الدين والله عاقد
- وممن مدحه أيضا السري بن أحمد الموصلي:
حضرنا والملوك له قيام .. تغض نواظرا فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقا .. ولم نر قبله ليثا يزار!
فكان لجوهر المجد انتظام .. وكان لجوهر المدح انتثار
- ومما مدح به أيضا، قول أبي فراس الحمداني يعاتبه في شجاعته وركوبه المخاطر ويسأله أن يشفق على نفسه:
أشدة ما أراه منك أم كرم؟ .. تجود بالنفس والأرواح تصطلم؟!
يا باذل النفس والأموال مبتسما .. أما يهولك لاموت ولا عدم؟
نشدتك الله لاتسمح بنفس علا .. حياة صاحبها تحيا بها الأمم
تفدي بنفسك أقواما صنعتهم .. وكان حقهم أن يفتدوك هم
تضن بالحرب عنا ضن ذي بخل .. ومنك في كل حال يعرف الكرم!
- ومن بليغ ما مدح به سيف الدولة قول الوأواء:
من قاس جدواك بالسحاب، فما .. أنصف بالحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا .. وهو إذا جاد دامع العين!
مما يروى من حلم سيف الدولة ومروءته أنه أعطى صلاحيات واسعة لبني كلاب، فلما صاروا أقوياء كثر بطشهم وظلموا الناس، واستمروا كذلك حتى غضب منهم سيف الدولة غضبا شديدا وأوقع بهم في ليلة واحدة
- ومن كرم سيف الدولة أيضا أنه بعث مرة، ل"مثقفين" كبيرين من مثقفي ذلك الزمن (وهما الخالديان: الأخوان الأديبان اللذان ألفا كتاب "الأشباه والنظائر" المعروف ب"حماسة الخالديين")، بعث إليهما جارية وغلاما، يحمل كل واحد منها صرة فيها دنانير، وثيابا مصرية، فقال أحدهما وهو أبو بكر الخالدي يخاطب سيف الدولة:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا .. إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمسا وبدرا، أشرقت .. بهما لدينا الظلمة الحنديس
ظبي أتانا وهو –حسنا- يوسف .. وغزالة هي –بهجة- بلقيس
هذا ولم تقنع بذاك وهذه .. حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة .. وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وكسوتنا مما أجادت حوكه .. مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول والـ .. مشروب والموطوء والملبوس
وتنيس الواردة في أبيات الخالدي هي مدينة مصرية قديمة.
- ومما يروى من حلم سيف الدولة ومروءته أنه أعطى صلاحيات واسعة لبني كلاب، فلما صاروا أقوياء كثر بطشهم وظلموا الناس، واستمروا كذلك حتى غضب منهم سيف الدولة غضبا شديدا وأوقع بهم في ليلة واحدة، وسبى نساءهم وأموالهم، ثم رق قلبه فرحمهم وعفا عنهم، فجمع نساءهم وأكرمهن وكلف بأمرهن الخدم، وأحسن إليهن وبالغ في إكرام منزلتهن، ثم أرجعهن مكرمات محفوظات المكانة، فقال المتنبي في هذه الواقعة من قصيدة له:
فعدن كما أخذن مكرمات .. عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكرا .. وأين من الذي تولي الثواب؟!
وليس مصيرهن إليك شينا .. ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب .. إذا أبصرن غرتك اغتراب
- ثم يقول في حلمه عفوه عن بني كلاب:
وكيف يتم بأسك في أناس .. تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم .. فإن الرفق بالجاني عتاب!
- أبو فراس الحمداني أيضا، لم يفوت هذه الواقعة فقال من أبيات له:
وما زلت -مذ كنت- تأتي الجميل .. وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب، حتى إذا ما ملكت .. أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى .. وكنت أباهن إذ ليس أب
طالعوا يتيمة الدهر، فهي من أغنى كنوز التراث العربي، ولا يستغني عنها مبتدئ ولا متخصص.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.