في ظهورٍ سريع وباهت، وفي كلمة قصيرة، بدا التّعب والإرهاق على أكثر رؤساء وزراء الاحتلال الإسرائيلي حكما وأطولهم مُددا، إذ ترقّب الجميع خروج بنيامين نتنياهو بعد أن تأكدت أنباء اقتحام قوات من حركة المقاومة الفلسطينية للمناطق المحتلة في محيط قطاع غزة، وتأخر كثيرا، وعندما خرج بدا مرتبكا ومهزوما. وفي كلمة قصيرة أكدت حالته، لم تُهدئ كلماته جماهيرَه، ولم تطمئنهم كما اعتاد، وقد توعد المقاومة.
في اليوم التالي وبعد أن كشفت الشمس عن مزيد من الحقائق وذهبت السّكرة وبدت العبرة؛ قال "نحن مقبلون على حرب طويلة وصعبة. لقد فرضت علينا الحرب نتيجة لهجوم قاتل شنته حماس، تنتهي المرحلة الأولى في هذه الساعات بتدمير معظم قوات العدو التي توغلت في أراضينا".
وفي الوقت الذي كان نتنياهو يطلق هذه الكلمات كانت الدّفعة الثانية من مقاتلي القسام يندفعون باتجاه المناطق التي استعادوها بوصفها قوات دعم ومساندة محمّلة بالإمدادات للفوج الأول، في صفحة جديدة من خطّة الإنهاك والإرباك التي سطّرتها المقاومة باحترافيّة لا مثيلَ لها.
أغرقت عملية طوفان الأقصى القيادة السياسية في الكيان المحتل، كما أغرقت القيادة العسكرية والاستخباراتية، وسحبت القوة السيبرانية للمحتل، والمصنفة في مراكز متقدمة على العالم إلى دوامة حدّ شلّها بالكامل، وهو ما يمكن قراءته ببساطة في حالة اختراق الجدار العازل مستحكم التحصين.
عدم دخول غرفة العمليات المشتركة في عملية طوفان الأقصى وعدم تنسيق القسّام معهم، لم يكن استئثارا بالقرار؛ إنما كان إمعانا في حالة السرية والتعمية التي حرصت حماس عليها من أجل إنجاح العمليّة، فعلى مدى 18 شهرا الماضية، ومع احتدام المواجهات في أنحاء الضفّة الغربيّة، وتمادي الانتهاكات في القدس من قبل المستوطنين وتماديهم، كانت جبهة غزة، أو على الأقل جبهة حماس، هادئة، حتى إن الاشتباكات التي وقعت كانت تردّ عليها الفصائل الأخرى، لا سيما حركة الجهاد، وإن ردّت حماس فإنّ ردّها يكون على استحياء، وهذا الرد الخجول هو جزء من معادلة الخداع الإستراتيجي.
لقد أغرقت عملية طوفان الأقصى القيادة السياسية في الكيان المحتل، كما أغرقت القيادة العسكرية والاستخباراتية، وسحبت القوة السيبرانية للمحتل، والمصنفة في مراكز متقدمة على العالم إلى دوامة حدّ شلّها بالكامل، وهو ما يمكن قراءته ببساطة في حالة اختراق الجدار العازل مستحكم التحصين التكنولوجي فوق تحصينه الخرساني الفولاذي، فانهار الجدار، كما انهارت القوة السيبرانية والاستخباراتية، التي هالَها التنسيق غير المسبوق بين قوات الدفاع الجوي والبري مع الصاعقة البحرية والتي فتحت الطريق لها الصاعقة المظلية، وعميت القوات العاملة بفقد المعلومة والرؤية ومن ثم التخطيط، أو على الأقل تفعيل خطط الطوارئ، ما دفع جوناثان بانيكوف، النائب السابق لضباط المخابرات الوطنية لشؤون الشرق الأوسط في الحكومة الأميركية، والذي يعمل الآن في مركز أبحاث المجلس الأطلسي؛ إلى وصف ما حدث في عملية طوفان الأقصى لوكالة رويترز؛ بأنه كان إخفاقا استخباراتيا، وأمنيا، فقد كانت صور الجثث الملقاة في الشوارع أو مجموعات المدنيين الذين يتم اقتيادهم إلى الأسر في غزة بمثابة صدمة عميقة.
طوفان الأقصى أغرق الإدارة الأميركية في دوامة الانتخابات القادمة، فإذا ببايدن الذي يجافي نتنياهو منذ أن تولى منصبه، يهاتفه ويظهر للوبي الصهيوني في أميركا مدى وده للرجل، وتعاطفه هذا ليس لشخص نتنياهو الذي سيغرقه طوفان الأقصى بعد أن تهدأ العاصفة ويعود الناخب الإسرائيلي إلى صندوق الانتخابات، بل تعاطفه الذي أظهره في شكل إرسال حاملة الطائرات "يو إس جيرالد آر فورد" للشرق الأوسط لمساعدة الكيان المحتل في السيطرة على الأمور، وهو ما يكتم أنفاس الحياد، ومن ثم الوساطة التي سعت أميركا على مدى تاريخها بعد حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول أن تلعبه في غياهب طوفان الأقصى.
طوفان الأقصى أغرق الأنظمة التي لا تزال تتشاور وتتواصل وتدين وتشجب، كما أغرق المنظمات البالية المتكلّسة التي لا تتحرك إلا بعد أن ينجلي دخان المعارك، سواء السياسية أو العسكرية، وما ذلك إلا من عجز رؤية وانعدام ثوابت.
وكما غرقت الإدارة الأميركية في الانحياز، غرق مشروعها التّطبيعي في المنطقة، فخروج الآلاف في أغلب عواصم الدّول العربية والإسلامية، والتي أتيح لها الخروج للشارع وملايين التغريدات المؤيدة للعملية من كل أنحاء الأمة الإسلامية، أكدت أنّ كل الخطط أخفقت، والحديث هنا ليس عن التطبيع، بل عن خطط التّمهيد له، من بثّ اليأس في قلوب الأمّة، ومن خطط التّفريق بين الأخوة، في تفصيلات سياسية برغماتية، لو وعوا مغزاها لما تقاتلوا عليها وما افترقوا، أو من خلال إلهائهم بحرائق داخلية لينشغل كل ببيته ويترك القضية المركزية، لكن من الواضح أن القوة الفاعلة قادرة أن تسكت المطبّعين كما تستطيع أن تسكت المرجفين وصغار العقول من سياسي وإعلامي الصدفة.
طوفان الأقصى أغرق الأنظمة التي لا تزال تتشاور وتتواصل وتدين وتشجب، كما أغرق المنظمات البالية المتكلّسة التي لا تتحرّك إلا بعد أن ينجلي دخان المعارك، سواء السياسية أو العسكرية، وما ذلك إلا من عجز رؤية وانعدام ثوابت، فافتقار القائمين على رسم خطوط السياسات وحدود الإستراتيجيات وجوامع الأمن القومي للأمة جعل منها أداة لتربح حفنة من أصحاب الياقات البيض، في زمن الكفاح والنحت في الحديد من أجل حرية حقيقية لأمة من المفترض أنها نالت استقلالها منذ أكثر من 50 عاما أو يزيد.
هذا الحديد الذي لا يفلّه إلا الحديد جعل الإدارة الأميركية، ترسل بفلذة أكبادها ونخبة النخبة لتنقذ الكيان المحتل، وتغرق حتى القوانين الدولية التي تبيح المقاومة وترى في المقاوم إرهابيا، رغم أن الفصائل لم تذهب أبعد من الحدود التي رسمتها الاتفاقيات الدولية وقرارات مجلس الأمن الذي تسيطر عليه أميركا وصبيانها، ورغم ذلك اعترف وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن بأن التّطبيع بين الاحتلال والسعوديّة لا يمكن أن يكون بديلا عن حلّ الخلافات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ما يؤكد أن أوسلو وعرابيها المنسقين الأمنيين، لا يراهم أحد بعد أن غرقوا في طوفان الأقصى، ويبقى الآن لهذه الفئة المخلصة مساندة الشعوب وبعض الأنظمة المخلصة، فإن هلكت هذه العصابة من المقاومين فلا راية للأحرار في الأرض أبدا.. فاللهم أنجز ما وعدت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.