قد نكتب الكلمة، ونُعد التالية لنثبتها، فيقع بينهما الحدث.. نبقي الأولى على حالها، ونستجيب للحدث فنمضي مع الأخرى في مسار آخر غير الذي كان مخططا لها.. وهكذا جاءت تدوينتي.
بدأتها بكلمات تواكب حربا ما تزال دائرة، مضى عليها أسبوعان، والثالث يوشك أن ينصرم؛ وما تزال غزة تعيش بين جرح وقرح، وما يزال الغاصبون يصبون عليها نيران حقدهم وغيظهم، حقد وغيظ أججهما الشعور أن زوالهم بات وشيكا؛ وهذا الشعور ما كان سائدا يوما، لا عندنا ولا عندهم، كما هو اليوم سائد.
وصفت المعركة بأنها معركة أمة، وأعلم أن هناك من سينكر علي ذلك، ويعتبر وصفي تهويلا للصورة وتضخيما للحقيقة، وما على هؤلاء إلا أن يفتحوا أعينهم ونوافذ وعيهم، ليروا ويحللوا معنى تقاطر رؤساء دول العالم لزيارة حكومة الكيان الصهيوني الغاصب
مثل كثيرين غيري تشغلني يوميات الحرب، تشدني مستجداتها، وأراقب المنحى الذي تسير فيه، أجتهد في قراءة أهميتها ومعانيها، فيبدو لي أنها قد تشكل منعطفا هاما في مسيرة أمة طالت غفلتها، وخمد تأثيرها، مع أن أبناءها يشكلون بتعدادهم ربع المعمورة اليوم.. في ذهني رقم يستدعي رقما آخر، أربط المليونين بالمليارين، الأول هو تعداد سكان غزة، والثاني تعداد مسلمي العالم، أحسب ما بينهما من نسبة فأجدها واحدا إلى ألف، وهذا يعني أن معركة أمة، في قلبها من كل ألف من الأمة واحد؛ وهنا ينشأ تساؤل عن حال الباقين.
في تعدادهم الهائل لا شك بأن هناك من جند طاقاته وإمكاناته بشكل فاعل لنصرة الحق وأهله، وهناك من لم يتنصل من المسؤولية فأسهَمَ من موقعه بدعم مادي أو معنوي، ومن حالهم كحال آخرين قال الله في شأنهم: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا یجدوا ما ینفقون} [سورة التوبة: ٩٢]. لكن هؤلاء كلهم لا يشكلون من المجموع إلا بقعة ضوء وسط ساحة معتمة؛ فأكثر الناس غافلون ساهون، بل منهم المتخاذلون المثبطون، ومنهم محسوبون على الأمة وما هم منها، خانوها وغدروا بها، ومنهم منافقون يسعون لـ (اللعب على الحبلين)، يظنون أنهم يستطيعون خداع الناس بكلمات مراوغة، ولن تخدع كلماتهم إلا المغفلين.
وصفت المعركة بأنها معركة أمة، وأعلم أن هناك من سينكر علي ذلك، ويعتبر وصفي تهويلا للصورة وتضخيما للحقيقة، وما على هؤلاء إلا أن يفتحوا أعينهم ونوافذ وعيهم، ليروا ويحللوا معنى تقاطر رؤساء دول العالم لزيارة حكومة الكيان الصهيوني الغاصب، ليقدموا له الدعم بأشكاله كلها كي يتمادى في باطله، أفكان ذلك سيحدث لولا أنهم يعتبرون هذا الكيان رأس حربة يرسخون من خلالها ضعف الأمة وهوانها، لتبقى لهم السيطرة عليها، وتبقى السيادة لهم والتبعية لها؟.
وكما يعكس اندفاع أولئك لدعم الكيان بصورة غير مسبوقة، اعتبارهم وإياه في جبهة واحدة، فإنه يظهر شعورهم بأن استمرار وجوده بات مهددا بشكل حقيقي.
هذا الواقع ينبغي أن يكون حافزا لنا لنتحرر من وهن أصابنا، ووهم شل طاقاتنا، وندرك أن المحتل أوهن مما ظننا، لا سيما وأن بضع مئات صادقين حطموا غطرسته، ومرغوا أنفه بالوحل؛ لكننا رغم ذلك نجد كثيرين منا ماضين في تذللهم وخضوعهم لدولة الاحتلال.. ولنا هنا أن نتساءل: أهؤلاء لا يستطيعون أن يتحرروا، أم استمرؤوا الهوان وباتوا لا يريدون الحرية؟
على الهواء مباشرة يتحول وائل من ناقل للصورة والخبر، ليصير في قلب الصورة، ويغدو مادة الخبر؛ فقد جاءه اتصال أعلمه أن المنزل الذي انتقلت إليه عائلته تم استهدافه، ثم تأتي التفاصيل، وفيها خبر استشهاد زوجته وابنه وبنته وحفيده!
أصل هنا مع الكلمات.. وبين التي كتبتها وأخرى أرتبها في الذهن لأنزلها في التدوينة، يستوقفني حدث حي تنقله شاشة الجزيرة.. مراسلها في غزة وائل الدحدوح على الهواء ينقل تفاصيل ما يجري، يتحدث عن الغارات الهمجية، التي باتت تفتك بكل شيء، بعدما اجتمعت لمنفذيها القدرة القصوى على البطش مع التجرد من أي رادع أخلاقي أو إنساني.. وعلى الهواء مباشرة يتحول وائل من ناقل للصورة والخبر، ليصير في قلب الصورة، ويغدو مادة الخبر؛ فقد جاءه اتصال أعلمه أن المنزل الذي انتقلت إليه عائلته تم استهدافه، ثم تأتي التفاصيل، وفيها خبر استشهاد زوجته وابنه وبنته وحفيده!
يحضرني هنا أن المواقف الصعبة لها قدرة عالية على كشف معدن الإنسان وحقيقته، فما هي حقيقة وائل التي ظهرت؟ لا يعنيني فيه هنا صفة المراسل الصحفي، إلا في كونها ساهمت في إظهار صورة حية على الهواء لتفاعل ابن غزة مع مجريات الحرب، وإذن فإني أقف عنده بوصفه إنسانا فلسطينيا من أبناء غزة، وهذا يعني أن ما صدر عنه هو نموذج لما يتكرر مع كل الأسر، وفي كل مدن القطاع وبيوتاته.
لأن وائل مشاعر وأحاسيس، كان لا بد للدمعة أن تتحرك، ولكن الدموع هناك ليست كغيرها، لقد أعلن هويتها وحقيقتها في كلمات قالها، فعرفنا أنها دموع الإنسانية، لا دموع الخوف والجبن.
ثم إن لهذه الدموع وقتا لا ينبغي أن يطول، فقدر أبناء غزة أن يكونوا في قلب المعركة، وهذه منزلة سامية بقدر ما هي مكلفة، وتتطلب صلابة خارقة وثباتا أسطوريا؛ ويؤهلهم لهذه المكانة إيمانهم بأنهم رغم الجراح والآلام، ورغم الدمار والفقد بقي لهم شيء جد ثمين.. فإنه -كما قال وائل- بقي لهم وطن، بقي لهم كرامة، بقي لهم الإرادة التي يتسلحون بها، بقي لهم اعتمادهم على الله تعالى وتعلقهم بحبله المتين، بقيت القناعة وبقي الإيمان الراسخ.. وبقي أن هذا هو الطريق.
"هذا هو قدرنا.. هذا صبرنا، وهذا خيارنا"، هكذا لخص وائل الدحدوح الموقف والمشهد، فأشعرنا أننا أمام ثلة عصية على الهزيمة، من أناس مؤمنين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأن أعداءهم وخصومهم، سواء المعلنون منهم والمقنعون، لن يحصدوا إلا الخزي والعار والهزيمة في الدنيا، وسوء المنقلب في الآخرة.
نعود إلى أنفسنا لنستجلبها كلمة تقارب حجم الحدث في غزة، فنشعر بالخجل يحيط بنا، فمن يبذل كلمة لا يقارن بمن يبذل دما، ثم إننا نخشى أن يفهم هذا السلوك وكأنه اعتبار لكفاية الكلمة عند من يستطيع تقديم شيء أكثر ويستنكف دون عذر؛ تنتابنا الخشية أن نكون من هؤلاء، فنسأل الله ألا يجعلنا منهم.. ومن صراع الإقدام والإحجام في النفس تخرج كلمة: "قلوبنا معكم"، وتخرج الكلمة خجولة لشعورها بأنها لا ترقى إلى المطلوب، لكنها ترجو أن يكون لها من الصدق ما يشفع لضآلتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.