يوما قال أحد الباحثين الصهاينة: إن الإعلام العالمي يخدم دولة الاحتلال الإسرائيلي حيث يحول قتلاها إلى قصص، بينما يقدم الضحايا الفلسطينيين مجرد أرقام.
دراسة تلك المقولة يمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة للكفاح، وبناء نهضة أدبية عربية جديدة، تستثمر قصص شهداء المقاومة الفلسطينية وأبطالها في زيادة وعي الأمة، وإعداد جيل جديد من القادة والمقاتلين من أجل الحرية.
عندما يموت جندي إسرائيلي يهرع الصحفيون إلى بيته للقاء أسرته، ودائما ما تصف زوجته رقته وجماله وكفاحه لإسعادها، وتنسج الأكاذيب والخرافات التي توضح كيف كان زوجا محبا ومثاليا.. بينما يتم تقديم أطفاله الذين يقاسون آلام الحسرة والحرمان من بعده، فتتفجر دموع النساء في أوروبا على ذلك الزوج والأب.
ظهر مفهوم "أنسنة الصراعات" الذي يعني استخدام القصص الإنسانية لجذب القلوب، وتحقيق الأهداف الدعائية بشكل غير مباشر.
الكذب الذي يجذب القلوب
النساء في الغرب يدركن جيدا أن تلك القصص التي تقدمها وسائل الإعلام عن الضحايا الإسرائيليين الذين قتلهم الفلسطينيون مجرد أكاذيب، وأن الزوجات الإسرائيليات يقدمن مجرد أوهام وخرافات عن مثالية أزواجهن وتضحياتهم، لكن الجمهور يحب القصص.
لذلك ظهر مفهوم "أنسنة الصراعات" الذي يعني استخدام القصص الإنسانية لجذب القلوب، وتحقيق الأهداف الدعائية بشكل غير مباشر.
ولأن الصهيونية تسيطر على معظم وسائل الإعلام في الغرب فقد استخدمتها لنسج الكثير من القصص عن معاناة اليهود بهدف جذب التعاطف معهم، وتم التركيز في تلك القصص على الأطفال والنساء.
وتم تحويل الكثير من هذه القصص إلي أفلام ومسلسلات تليفزيونية، ونتيجة التعاطف مع معاناة اليهود تم الحصول على مئات المليارات من التبرعات لإسرائيل من الجمهور في أوروبا وأمريكا.
وفي الوقت نفسه كان تأييد إسرائيل والدفاع عنها هو المدخل لقلوب الناخبين، فالسياسي الذي يريد النجاح في الانتخابات يعبر عن تعاطفه مع اليهود ويدافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
تعدّ عملية استخدام القصص الإنسانية من أهم مجالات إدارة الصراع، وأصبح هناك خبراء في بناء هذه القصص واستخدامها لبناء صورة إيجابية للدولة، وتشويه صورة العدو.
قوة القصص وإثارة العواطف
من أهم المجالات العلمية دراسة دور القصص في بناء القوة الناعمة والتأثير على شعوب العالم، وتشكيل الرأي العام.. فالقصص من أهم الوسائل المستخدمة في إثارة العواطف، وكسب القلوب.
لذلك تعدّ عملية استخدام القصص الإنسانية من أهم مجالات إدارة الصراع، وأصبح هناك خبراء في بناء هذه القصص واستخدامها لبناء صورة إيجابية للدولة، وتشويه صورة العدو.
لذلك لا يقوم العسكريون فقط بإدارة الحروب الحديثة، فهناك خبراء الدعاية والدراما والعلاقات العامة الذين يحولون الضحايا إلي أبطال يدافعون عن قضية إنسانية، بينما يتم نزع الصفة الإنسانية عن الأعداء، ونسبة الأعمال الإجرامية لهم، وتصوير العدو بأنه لا يدافع عن قضية إنسانية، أو عن الحق والعدل.
لقد تطور علم إدارة الصراع؛ فأصبحت القصص الإنسانية تحتل فيه مكانتها المهمة وسيلة للتأثير، وكسب القلوب، وإثارة العواطف، وتشكيل الرأي العام.
المشكلة أن النظم العربية كانت تريد أن تقوم وسائل الإعلام بمدحها وعرض إنجازاتها وهجاء أعدائها، وتفرض القيود على من يفكر في التغيير، وتطوير الأداء الإعلامي.
تعليم الإعلاميين بأساليب جديدة
عملت خلال حياتي العلمية لتعليم الإعلاميين في الجامعات إنتاج القصص الإنسانية، والبحث عن الزوايا الجديدة في الأحداث التي يمكن أن تؤثر على العواطف، وتثير المشاعر الإنسانية.
وكنت أعمل لبناء صناعة إعلام عربية تتكامل فيها الصحافة مع قنوات التليفزيون وشركات السينما وإنتاج المسلسلات التليفزيونية.
لكن المشكلة أن النظم العربية كانت تريد أن تقوم وسائل الإعلام بمدحها وعرض إنجازاتها وهجاء أعدائها، وتفرض القيود على من يفكر في التغيير، وتطوير الأداء الإعلامي.
لذلك أصبحت وسائل الإعلام العربية يديرها الذين لا يعلمون شيئا عن علوم الإعلام والاتصال، ويعتبرون أن هذا العلم يشكل خطر عليهم وعلى السلطات التي تكفل لهم أرزاقهم مقابل أن يحافظوا على الوضع الراهن، فليس في الإمكان أفضل مما كان، وكل شيء على ما يرام، والنظام حقق إنجازات لم يحققها أحد طوال التاريخ.
اسأل نفسك وأنت تتابع هذه القنوات: أين القصص الإنسانية لأبطال فلسطين، الذين ودعوا أسرهم وأحبابهم يوم السابع من أكتوبر، وانطلقوا يقدمون للعالم كله نموذجا متميزا للبطولة والتضحية لتحرير المسجد الأقصى
أين القصص الإنسانية لأبطالنا؟!
إن شئت أن تكتشف الكثير من الأدلة على صحة ما أقول؛ فيمكنك أن تتحمل وزر وإثم متابعة الكثير من قنوات التليفزيون العربية خلال هذه الفترة الخطيرة من تاريخ العالم، والتي تحمل نذر الكوارث وشلالات الدماء.
واسأل نفسك وأنت تتابع هذه القنوات: أين القصص الإنسانية لأبطال فلسطين، الذين ودعوا أسرهم وأحبابهم يوم السابع من أكتوبر، وانطلقوا يقدمون للعالم كله نموذجا متميزا للبطولة والتضحية لتحرير المسجد الأقصى الذي يحتل مكانته المهمة في العقيدة والحضارة الإسلامية.
كان هؤلاء الأبطال أجمل وأنبل مقاتلين من أجل الحرية؛ فهم أصحاب رسالة وقضية، يضحون من أجلها بأروحهم.
كان يمكن طوال السبعين سنة الماضية أن يظهر الكثير من الأدباء الذين يبنون للأمة ثروة معرفية؛ بتصوير قصص أبطال الأمة، لكن السلطات لم تكن تريد هذا الاتجاه الأدبي، بل كانت تريد تصوير حالات الضعف الإنساني والسقوط وإثارة الغرائز باستخدام المشاهد الجنسية
نهضة أدبية عربية جديدة.. لماذا؟!
ولأن السلطات في العالم العربي لا تريد علما ولا أدبا ولا إعلاما، فقد أغلقت دور النشر أمام الكثير من المواهب الأدبية التي ترفض الخضوع والخنوع، وتصر على التعبير عن أشواق الأمة للعدل والحرية وتحرير الأوطان والإنسان، فأضاعت بذلك على الأمة ثروة أدبية وإنسانية، ولم يتم تصوير القصص الإنسانية لأبطال الأمة الذين ضحوا بحياتهم من أجل نهضتها وعزتها وحريتها وتحرير أرضها وإرادتها.
كان يمكن طوال السبعين سنة الماضية أن يظهر الكثير من الأدباء الذين يبنون للأمة ثروة معرفية؛ بتصوير قصص أبطال الأمة، لكن السلطات لم تكن تريد هذا الاتجاه الأدبي، بل كانت تريد تصوير حالات الضعف الإنساني والسقوط وإثارة الغرائز باستخدام المشاهد الجنسية، والصراع الطبقي، والثورة على القيم والأعراف والتقاليد العربية، وتصوير المرأة المظلومة دائما، لذلك يجب أعداد قوانين أحوال شخصية جديدة، تتيح لها الطلاق عندما تريد، وتقيد حق الرجل في الطلاق.
ولقد وظفت السلطات الكثير من محدودي المواهب الذين لا يجيدون لغة العرب، وينتجون قصصا تتفق مع مقاييس النقد الأدبي الغربية ليحصلوا بها على جوائز هي أقرب إلى الرشوة، ولم تكن نتيجة تقييم أدبي وعلمي.
أما أطفالنا، فدولة الاحتلال الإسرائيلي أسقطت عليهم حتى الآن 6 آلاف قنبلة حولت أجساد المئات منهم إلى أشلاء.
الأمة تحتاج إلى أدباء جدد!
بعد أن غرقت الأمة في الواقعية وصور لها التابعون للسلطات وللغرب حالات الضعف والسقوط والعجز والخضوع والخوف والهزيمة النفسية، فإن حاجتها تشتد لأدباء جدد يصورون قدرة الأمة على الفعل، وكفاحها من أجل الحرية والتحرير، وبطولات الكثير من رجالها الذين ضحوا بأنفسهم من أجل تحرير أوطانهم، وتضحيات الكثير من نسائها، وإصرارهن على الدفاع عن حق أبنائهن في أن يكونوا أبطالا وقادة.
أما أطفالنا، فدولة الاحتلال الإسرائيلي أسقطت عليهم حتى الآن 6 آلاف قنبلة حولت أجساد المئات منهم إلى أشلاء.
هل هناك مآسي تستحق التصوير الأدبي أكثر من ذلك، وهل هناك معاناة إنسانية يمكن أن تثير العواطف النبيلة للإنسان أكثر من معاناة شعب يعيش ويحلم بالعودة إلى أرضه؛ الذي اغتصبها منه الصهاينة بالقوة الغاشمة التي حصلوا عليها من دول الغرب الاستعمارية.
الأمة تحتاج لأدباء يقاتلون من أجل الحرية، ويصورون كفاح الأبطال الذين قرروا بإرادتهم الحرة أن يحرروا مسجدهم الأقصى وأسراهم، وأن يغيروا واقع الأمة الكئيب
أدباء يقاتلون من أجل الحرية!
لم تعد الأمة بحاجة لأدب يصور لحظات الضعف والسقوط الإنساني، ويثير التعاطف مع امرأة حرمتها التقاليد من الزواج من حبيبها الذي لم يقم بأي عمل يستحق من أجله الحب.
لكن الأمة تحتاج لأدباء يقاتلون من أجل الحرية، ويصورون كفاح الأبطال الذين قرروا بإرادتهم الحرة أن يحرروا مسجدهم الأقصى وأسراهم، وأن يغيروا واقع الأمة الكئيب، وأن يعيدوا لها العزة والكرامة والمجد.
وهذه القصص هي التي ستكسب قلوب الملايين من العرب الحالمين بالحرية والعدل، وسوف يتفاعلون مع هذه القصص، ويستخدمونها لتربية أبنائهم ليصبحوا قادة المستقبل.
الأدباء الذين يقاتلون من أجل الحرية هم الذين يمكن أن يبنوا نهضة أدبية عربية جديدة تساهم في بناء مجتمع عربي للمعرفة، فقصص أبطال فلسطين تشكل ثروة للأمة العربية تطلق العنان لخيال الملايين من شباب الأمة لينتجوا أفكارا جديدة تسهم في بناء قوة الأمة الصلبة والناعمة.
الأدباء الذين يقاتلون من أجل الحرية غير قابلين للشراء، وهم لا يخضعون لمقاييس النقد الغربية، ويرفضون التبعية للغرب وللسلطة، ويصورون أشواق أمتهم لتحرير فلسطين وكفاح أبطالها
ناشرون من أجل الحرية!
لكن تلك النهضة الأدبية تحتاج إلى ناشرين أصحاب رسالة يقاتلون من أجل الحرية بنشر إنتاج الأدباء الجدد الذي يمكن أن يتعرض للمصادرة والمنع، لأن السلطات لا تريد للأمة أن تنتفض، وأن تقرأ قصص البطولة والكفاح والتضحية والمقاومة.
وهذا الإنتاج الأدبي لا يمكن أن يجد طريقه للنشر عبر المؤسسات التابعة لوزارات الثقافة التي شكل اتجاهاتها وزراء تفاخر أحدهم بأنه يستطيع أن يشتري الأديب "بعشوة" (وجبة عشاء).
الأدباء الذين يقاتلون من أجل الحرية غير قابلين للشراء، وهم لا يخضعون لمقاييس النقد الغربية، ويرفضون التبعية للغرب وللسلطة، ويصورون أشواق أمتهم لتحرير فلسطين وكفاح أبطالها، ومقاومة نسائها، وجرائم الصهيونية بتفجير الأطفال.
هناك الآلاف من الأبطال والشهداء في تاريخنا تشكل قصصهم ثروة معرفية، يمكن أن نستخدمها في إدارة صراع طويل المدي مع عدو تمكن باستخدام وسائل الإعلام من السيطرة على عقول الغربيين.
تحرير الإعلام بداية النهضة
لكن بناء نهضة أدبية يحتاج إلي مرحلة جديدة من الكفاح لتحرير الإعلام العربي من التبعية للغرب، والتبعية للسلطات لينقل قصص أبطال فلسطين الذين يثيرون خيال الشعوب العربية لتنتفض وتقاوم وتنتصر.
هناك الكثير من الأبطال في فلسطين يمكن أن تشكل قصصهم مرحلة جديدة من الكفاح والمقاومة والإصرار، فقد أبدعوا وابتكروا وأنتجوا أفكارا جديدة ليحرروا بها أرضهم وقدسهم وأسراهم.
وهؤلاء يمكن تحويلهم إلى قادة لشباب الأمة بالمثال والقدوة، وقصصهم تثير العواطف وتشحذ العقول وتطلق الخيال، وتحفز الشباب لإنتاج الأفكار، والانطلاق في ميادين الكفاح لانتزاع حريتهم.
هناك الآلاف من الأبطال والشهداء في تاريخنا تشكل قصصهم ثروة معرفية، يمكن أن نستخدمها في إدارة صراع طويل المدي مع عدو تمكن باستخدام وسائل الإعلام من السيطرة على عقول الغربيين.
ونحن نستطيع أن ندخل هذا الصراع ونستخدم قصص أبطالنا لنكسب بها عقول ملايين الأحرار في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية الذين يتطلعون بإعجاب للمقاومة الفلسطينية، وتحتاج إلى معرفة تجربتها في المقاومة لتستخدمها في التحرر من الاستعمار والاستغلال الغربي.
طوفان الأقصى بداية مرحلة جديدة
صور شهدائنا تثير الخيال الذي سينطلق ليكتشف آفاقا جديدة للكفاح والمقاومة والتحرير، والكثير من الأدباء يمكن أن يصوروا تضحيات الأبطال، وإصرار المقاتلين على تحقيق الحرية بمعناها الإسلامي الحضاري الذي يرتبط بالإيمان والقوة والعمل لبناء الحضارة وتحقيق العدل.
ومن المؤكد أن أمتنا تستطيع أن تبني نهضة علمية وأدبية وإعلامية تشكل أساسا لعودة الحضارة الإسلامية، وقصص الأبطال تثير الخيال، وتشحذ الإرادة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.