كلما تحركت فلسطين نبتت من العدم طائفة تلتحفُ المنطق وتتدثر بالإنسانية لتتحدث لنا عن جدوى المقاومة وعائدها المكلف على الوضع الصحي في فلسطين والخسائر البشرية التي قد يجرها "مراهقو المقاومة" على شعبهم!
والواقع أنه من العبث نقاش هؤلاء جميعا، إذ إن ما يفتقدونه ليس تفصيلا من صورة عامة ولا جانبا من مشهد كبير، هؤلاء يفتقدون "المنطق" ذاته، منطق اللحظة المقاوِمة والحرب التحريرية.
وجود الكيان بحكم القانون الدولي احتلال، والاحتلال يجر إلى المقاومة، وفي المقاومة منطق إما أن تفهمه وإما أن تتنحى عن طريقه لأنه لن يتنحى هو عن طريق التاريخ
يتحدث هؤلاء كأن الفلسطينيين والصهاينة طرفان متكافآن ومطلوب من الفلسطينيين أن "يعقلنوا" نضالهم ضد خصمهم الوديع، ويمتنعوا من كل سلوك قد ينجر عنه شهداء وجرحى..
أولئك لا يفهمون أساسيات القضية، فوجود الكيان بحكم القانون الدولي احتلال، والاحتلال يجر إلى المقاومة، وفي المقاومة منطق إما أن تفهمه وإما أن تتنحى عن طريقه لأنه لن يتنحى هو عن طريق التاريخ.
المقاومة تنطلق أصلا من لا توزان القوى، فالمحتلون أقوى بكثير ممن وقع عليهم الاحتلال ولولا ذلك ما وقع الاحتلال أصلا، والاحتلال بما هو طارئ على التاريخ فلا أمل له في الحياة سوى بإقناع المقموعين أن رحيله مستحيل وأن من العبث مقاومته، وهو في سبيل ذلك يفعل كما كل مجرم، يمتهن القتل والتشريد والتهجير والتعذيب ليكوي وعي المقموع ويجهّزه نفسيا للرحيل عن أرضه، ثم يجد فيها المحتل راحته فيجذب إليها سكانا جددا يبيع لهم حلم "الجنة الموعودة" و"أرض اللبن والعسل" و"واحة الأمن".
بينما يسلك المقموعون طريقا واحدا لا ثاني له، هو إزعاج الوضع القائم وإقلاق راحته، وجعل حياته واستدامتها مستحيلين، يصل المقموع إلى ذلك لا بأن تصبح قوته مساوية للمحتل فذلك عبث لن يتحقق ولكن باستغلال قدراته الضعيفة في تحويل "الجنة الموعودة" إلى وضع "اللا أمن".. وجعل الحياة الرغيدة غير ممكنة لكل الذين تجرؤوا على أرض غيرهم، يستوي في ذلك أن يقاتل المقموع بصوته أو بالحجر أو بالفأس أو بالصواريخ أو بالقنابل البدائية.. يكفي أنه يقاتل، فكل لحظة قتال هي لحظة جحيم للاحتلال، لحظة تحطيم لأسطورته وتكسير لسلعته الأساسية التي يبيعها للمستوطنين.. سلعة الأمن.
طبيعي أن لكل لحظة مقاومة ثمنها الفادح فهي لحظة وقوف في وجه وحش غير بشري هو الاحتلال.. وحش لا أخلاق له ولا رادع لانتقامه، ولكن السؤال واجب: ما الفرق بين أن يموت ألف فلسطيني سنويا جراء الحصار ونقص الدواء أو أن يموت ذات العدد في يومين في معركة مع المحتل؟ لا فرق سوى أن الموت الأول طويل مُعَذِّب بلا معنى والموت الثاني فيه كل المعنى وكل السعادة وكل الرضى من أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه ولم يبق لهم سوى ما يوقعونه في عدوهم من أذى قبل انقضاء حياتهم القصيرة أصلا!
كان يمكنك أن تقنع جيل الـ 1967 أن جيش الصهاينة لا يقهر لولا أن 1973 قد حطمت هذه الكذبة، أما اليوم فكيف يمكنك أن تتجرأ على تخويف طفل فلسطيني واحد من الجيش الذي لا يقهر وهو الذي جر بنفسه جنديا صهيونيا من أبعد مستوطنة إلى قلب القطاع مشيا على الأقدام
لقد كانت لحظة "الحجارة" في فلسطين لحظة حياة ومجد رغم تكلفتها، فقد تعلم الفلسطيني أن يرفض التهجير ولو بحجر.. وأن يقاتل ولو بمقذاف.. ثم كانت لحظة المواجهات المسلحة لحظة عظمى فقد اتضح أن المحتل قابل للموت تماما كالفلسطيني، ثم جاءت لحظات طرد المحتل من غزة لتقنع من لم يقتنع أن الاحتلال قد يهرب وأنه غير مستعص على الهزيمة.. ثم جاءت لحظات حروب غزة التالية لتؤثّث الحلم بالتحرير رغم الحصار والدماء المسفوحة بغزارة..
أما اليوم فقد اندفع الفلسطيني خارج غزة، اليوم لم يعد محاصرا بل محاصِرا.. حطم الجدار وحاصر المستوطنات وقاتل المحتلين في حصونهم وهزمهم برا وبحرا وجوا، واستعاد أرضه ولو للحظات وكان سعيدا بالاستشهاد عليها بعد أن رأى المستوطنين يفرون من أمامه والجنود يلقون أسلحتهم بدل استعمالها كما يليق بمن يحفل بشرف الجندية.
إن هاهنا رمزية لا تخطئها عين، فالفلسطيني الذي كان مهجّرا قد عاد إلى الفعل، حجرا فرصاصة فصاروخا فهجوما مفتوحا، خوفه من المحتل يندثر وثقة المحتل إلى زوال وحلمه إلى رحيل.
كان يمكنك أن تقنع جيل الـ 1967 أن جيش الصهاينة لا يقهر لولا أن 1973 قد حطمت هذه الكذبة، أما اليوم فكيف يمكنك أن تتجرأ على تخويف طفل فلسطيني واحد من الجيش الذي لا يقهر وهو الذي جر بنفسه جنديا صهيونيا من أبعد مستوطنة إلى قلب القطاع مشيا على الأقدام بعد أن أشبعه شتما وصفعا.. لا أكثر!
اللحظة السحرية التي عاشوها في "طوفان الأقصى" ستكون عنوان حياتهم الباقية، لن يفعلوا شيئا فيما تبقى لهم من عمر سوى البحث عن عيشها من جديد، لقد اكتشفوا ينبوع الحياة ولن يتنازلوا عنه
هذه لحظة تخلق في أبناء الجيل الجديد ذكرى لا تنسى، وتوقظ فيهم طموحا لن يموت، لقد كانوا يمضون إلى حتفهم بلا معنى، أما اليوم فقد رأوا أن بإمكانهم هزم الموت وأسر السجّان وصفع الجندي الذي لا يملك من شرف الجندية سوى سلاح يتجرّد منه عند أول مواجهة.. ها هنا جيل كسر الاحتلال بيديه.. واحتلال تحطّمت أحلامه أمام عينه، ولن ينفعه بعد ذلك أن يقتل ألفا أو عشرة آلافٍ من الفلسطينيين.. فلم يعد الموت يخيفهم بعد أن صادقوه طيلة أعمارهم.. ما عاد يثيرهم فعلا هو اكتشافهم أن المحتل قابل للركل والصفع والأسر..
اللحظة السحرية التي عاشوها في "طوفان الأقصى" ستكون عنوان حياتهم الباقية، لن يفعلوا شيئا فيما تبقى لهم من عمر سوى البحث عن عيشها من جديد، لقد اكتشفوا ينبوع الحياة ولن يتنازلوا عنه.. لقد قاتلوا على أرضهم بأسلحتهم وطردوا المحتلين ودخلوا بيوت أجدادهم.. للحظة لم يصبحوا لاجئين بل أصحاب أرض.. ولا فرق كم دامت تلك اللحظة.. ساعة أو ساعتين أو عشر ساعات.. الفرق أن الأرض قد رجعت والمعنى أنها ممكنة الرجوع والمغزى أن راحة المحتل ممكنة الإقلاق بأكبر الإرادات لا بأضخم الوسائل.. ومن عاش سحر الحرية لن يكف عن طلبها إلى أن يلقاها أو تلقاه.. أما الذين أسرهم أطفال غزة فقد أوقظ في دواخلهم شعور أسر قديم هو الأسر البابلي.. أسطورة أريد لها أن تبني المستقبل فإذا هي تنقلب فأسا يكسر الحاضر والمستقبل!
إنها ساعات.. إنها يوم.. لا تتعب نفسك في العدّ، فالرقم لا يحتوي المشاعر والقلب لا يحسب الأمنيات.. والطموح لا يتحاكم إلى عقلانيات اليائسين بعد أن أيقظته عزائم المقاومين، ألم يقل تميم عن الزمن وشعبه:
وكلما همّ أن يقول لهم .. بأنهم مهزومون ما اقتنعوا!
إلى أن أوجز لك ما حدث اليوم من فرار قطعان جنود الاحتلال بقوله:
فيرجع الجند خطوتين فقط .. ولكن القصد أنهم رجعوا!
أرض أعيدت ولو لثانية .. والقوم عزّل.. والجيش مدّرعٌ
لقد تراجع المحتلون أيها السادة ولن يتقدموا بعد اليوم أبدا!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.