شعار قسم مدونات

الإلحاد عند توماس هوبز وأخلاق السلطة المطلقة

مدونات - توماس هوبز
الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (مواقع التواصل الاجتماعي)

ونحن نوشك أن نطوي صفحة عصر التنوير، لا بد لنا من الوقوف عند نموذج فريد من فلاسفة قرنه الأول، جمع بين الفلسفة العقلية والفلسفية العلمية، ولا يزال يثير كثيرا من النقاش والجدل حول أطروحاته التي لم تكن تخلو من تناقضات أساسية، مبعثها رؤيته للعصر الذي كان يعيش فيه، وما كان يموج به من صراعات واضطرابات. إنه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي كان منشغلًا كثيرًا بالنظام السياسي والاجتماعي، وكيف يمكن للبشر أن يعيشوا معًا في سلام، ويتجنبوا خطر الصراع الأهلي والعالمي. وقد قاده ذلك إلى اتخاذ موقف مادي صارم تجاه الدين والأخلاق، جعله يقف -متقدمًا- إلى جانب ديدرو وهولباخ، في التأسيس للفكر الإلحادي الذين أحدث تغييرات كبيرة في نظرة الغرب إلى الدين والأخلاق. ويعدّ هوبز في نظر كثير من المؤرخين الغربيين أحد أكبر فلاسفة القرن الـ١٧م في إنجلترا، وكان من أوائل من أسهموا في نظرية "العقد الاجتماعي"، وإن كان قد شذّ عن الآخرين في مناصرته للحكم المطلق.

دفعت دراسة الفيزياء هوبز إلى التعامل مع الذات الإلهية باعتبارها أحد الموجودات المادية، فهو يعدّ الرب "كائنا ماديا" ومن ثم لا بد أن يخضع لقوانين الفيزياء، ويعدّ الخالق مصطنعًا من قبل البشر، فهو موجود ولكنه كيان مصطنع.

تدريس وحروب وفلسفة

تخرّج توماس هوبز (Thomas Hobbes) (١٥٨٨-١٦٧٩) في جامعة أكسفورد، وعمل مدرسًا في مدرسة خاصة، قبل أن ينتقل إلى باريس عام ١٦٣٠م ليعمل مدرسًا خاصًّا لمدة 7 سنوات، وسّع فيها معرفته بالفلسفة، ومتابعة مناظرات الفلسفة الكبرى في الصالونات الفلسفية الباريسية، حتى صار مناظرًا متمرسًا. عاد هوبز إلى إنجلترا عام ١٦٣٧م، التي كانت تعاني حينئذ من الحروب الأهلية بينها وبين أسكتلندا وأيرلندا، وكذلك الأزمات السياسية بين الملك تشارلز الأول والنبلاء وأصحاب الأعمال، الذين كانوا يطالبون بتشكيل برلمان يشارك الملك في اتخاذ القرارات الكبرى، ويرفضون تمويل الحملات العسكرية التي يريد الملك القيام بها ضد أسكتلندا. وكردة فعل، قام الملك تشارلز الأول بحل البرلمان الذي عُرف بـ"البرلمان القصير" بنهاية عام ١٦٤٠م، ولكنه أذعن بعد ذلك لضغوط النبلاء وأصحاب الأعمال، وتم انتخاب برلمان جديد عام ١٦٤١م عُرف بـ"البرلمان الطويل"، الذي أصدر قرارات تمنع الملك من حله، كما تمنعه من فرض ضرائب دون الرجوع إلى البرلمان. وعلى مدى 3 حروب بين إنجلترا من جهة وأسكتلندا وأيرلندا من جهة أخرى، في الفترة ١٦٣٩-١٦٥٣م، فقدت بريطانيا نحو ٤% من سكانها في ذلك الوقت، منهم نحو ٨٥ ألف قتيل قضوا في الحرب، إضافة إلى نحو ١٠٠ ألف قضوا بسبب الأمراض والأوبئة الناجمة عن الحرب. وقد أثّرت هذه الاضطرابات السياسية والحروب والضحايا على توماس هوبز الذي راح يضع أفكاره وتصوراته حول السلطة وعلاقتها بالشعب، فكانت باكورة أعماله عام ١٦٤٠م، إثر حل "البرلمان الصغير"، أطروحة بعنوان "أركان القانون: الطبيعية والسياسية" ذكر فيها أن الممالك الوراثية لا تتشكل بالضرورة بموافقة المحكومين. وبعد تشكيل "البرلمان الطويل"، غادر هوبز لندن مباشرة إلى باريس، خوفًا على حياته، لأن الكتل البرلمانية بدأت تلاحق أنصار الملك، وكان هوبز مدافعًا عن الحق المطلق للملوك.

طوّر هوبز أفكاره السياسية في كتابه "De Cive: المبادئ الفلسفية للحكومة والمجتمع"، الذي صدر عام ١٦٤٢م، وبعد ٩ سنوات صدر له عام ١٦٥١م كتابه الأكثر شهرة بعنوان "Levathian" (ليفاثايان: موضوع وشكل وسلطة الكمنويلث الكنسي والمدني)، و"ليفاثايان" تعني وحش البحر أو السفينة الضخمة، وعند بعض المؤرخين الأوروبيين يعدّ بمنزلة الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية، والتي وضع فيها رؤيته الخاصة حول نظرية العقد الاجتماعي، التي خالف فيها معاصريه، حيث اعتمد في رؤيته على مبدأ الحكم المطلق للسلطة.

بين الإيمان والإلحاد

رغم الخلاف الذي يدور بين المؤرخين والباحثين حول حقيقة موقف هوبز من الدين، فإن أقواله عن الخالق لا يختلف اثنان في أنه يدخل بها في دائرة الإلحاد، بغض النظر عن مقاربات بعض الباحثين في التماس تأويلات لأقواله، باعتبارها محاولة لفض الاشتباك بين الدين والسياسة، أو بين الدين والسلطة.

لقد دفعت دراسة الفيزياء هوبز إلى التعامل مع الذات الإلهية باعتبارها أحد الموجودات المادية، فهو يعدّ الرب "كائنا ماديا"، ومن ثم لا بد أن يخضع لقوانين الفيزياء، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يرى أن الخالق مصطنع من قبل البشر، فهو موجود ولكنه كيان مصطنع، كشخص مصطنع بطريقة ما. وهو يرى أن الكون جسد، وأن الخالق جزء من العالم ومن ثم هو جسد، وأن أسفار موسى الخمسة والعديد من كتب الكتاب المقدس هي تنقيح أو تجميعات من مصادر سابقة، وأن أعضاء الثالوث هم موسى ويسوع والرسل، وأن السحر أسطورة، وأن السماء وهم، وأن الدين في الواقع مشوش بالخرافات وأن الكنيسة، في كل من حكومتها وعقيدتها، يجب أن تخضع لإملاءات السلطة المدنية العليا. هذه الأفكار عبر عنها هوبز باستفاضة في كتابه "ليفاياثان"، وهي تتناقض تناقضا واضحا مع أفكاره الواردة في كتابه "أركان القانون" قبل نحو ١٠ سنوات، والتي يدافع فيها عن وجود الله بأنه السبب الأول لكل الأسباب، وبأن أفكار البشر محدودة لا يمكنها تصور ماهية الخالق. وقبل وفاته عاد ليقدم وجهة نظر جديدة في ملحق الطبعة اللاتينية من كتاب "ليفاياثان" عام ١٦٦٨م، يصف فيها الخالق بأنه روح جسدية، لها ميزة الامتداد، وليس له مكان فردي في العالم، ولكنه قادر على التأثير في كل الأشياء في العالم.

انطلق هوبز من الفلسفة الأخلاقية ليضع نظرية العقد الاجتماعي التي تقضي بوجوب الخضوع لسلطة مطلقة تضمن بناء نظام حكم مدني لا يخضع للدمار من الداخل. فالأعباء التي تتحملها أكثر الحكومات قمعًا تعدّ هيّنة مقارنة بالبؤس والمصائب الفظيعة التي تصاحب الحرب الأهلية.

الأخلاق وعقد السلطة المطلقة

كما سيطرت رؤية هوبز لتحقيق التعايش السلمي بين البشر على نظرته إلى الدين والخالق، كذلك سيطرت على نظرته للأخلاق؛ فقد كان يعتقد أن المعايير الأخلاقية لا يمكن العثور عليها في خطة الله الكونية، ولكن في الاتفاقيات الاجتماعية والسياسية. وهو يرى أن العالم من دون أخلاق سيكون مكانًا رهيبًا، بلا فن أو أدب أو تجارة أو صناعة أو ثقافة، والأكثر رعبا من كل ذلك أنه سيكون مكاناً لـ"الخوف المستمر"، وخطر الموت العنيف، وسيغلب على حياة البشر العزلة والفقر والكراهية والوحشية، وهذا تمامًا هو حال الحياة في الطبيعة قبل دخول الحضارة والمدنية إليها.

والأخلاق عند هوبز ليست مستمدة من الدين أو القيم والأعراف الاجتماعية، وإنما هي مجموعة القواعد التي يتوافق الناس على الالتزام بها. وانطلاقًا من ذلك، وضع هوبز رؤيته الأخلاقية بصورة متدرجة تنتهي بنظريته الخاصة بالعقد الاجتماعي بين السلطة والناس، على النحو الآتي:

أولًا: أن حالة الطبيعة (ما قبل المدنية) هي حالة الحرب، فالبشر عادة يسعون جاهدين لتحقيق رغباتهم في الطعام، والملبس، والمأوى، والسلطة، والشرف، والمجد، والراحة، والمتعة، وتعظيم الذات، وحياة الراحة. وبالنظر إلى الرغبات، وندرة طلباتها، والمساواة النسبية في القوة، والشعور السائد بالمصلحة الذاتية لدى جميع البشر، فإن البشر سوف ينخرطون في صراع شرس على الموارد الشحيحة، يهاجمون ويسرقون ويدمرون ويغزون لحماية أنفسهم وإثبات وضعهم.

ثانيًا: أن الأفراد في الحالة الطبيعية ليس لديهم قانون أخلاقي مسبق، يلزمهم بتقييد سلوكهم، فيبررون استخدام القوة والاحتيال للدفاع عن النفس.

ثالثًا: الخوف من الموت والرغبة في حياة كريمة يدفعان البشر نحو السلام، وهذا هو قانون الطبيعة، بينما الأخلاق هي مجموعة القواعد التي تجعل العيش السلمي ممكنًا.

رابعًا: على الرغم من أنه من مصلحة البشر الموافقة على بنود السلام، فإنهم يرون أحيانًا عدم الامتثال للاتفاقيات ما لم تجبرنا بعض القوى القسرية على الامتثال للاتفاقيات. ويسمى هذا الاتفاق بين الأفراد والقوة القسرية التي تجعل العيش الجماعي ممكنًا بقوانين العقد الاجتماعي.

ورأى هوبز أن اتفاق العقد الاجتماعي يزيل الغموض عن الأخلاق، ويجعلها قواعد أخلاقية محددة، ويجعل البشر أكثر قدرة على العيش بصورة أفضل، كما أن القواعد الأخلاقية لا تعني التدخل في حياة الناس، ولا تفترض أننا يجب أن نقوم بالإيثار على أنفسنا، بل تفترض أننا مهتمون بأنفسنا، وتعطينا سببًا لنكون أخلاقيين، حيث تصبّ الأخلاق في مصلحتنا الذاتية. وعلى هذا الأساس، فإن الأخلاق تقابل عند هوبز مجموعة القوانين والتشريعات التي تصدرها السلطة السيادية المطلقة لرعاياها.

انطلق هوبز من الفلسفة الأخلاقية ليصل إلى نظرية العقد الاجتماعي التي تقضي عنده بوجوب الخضوع لسلطة مطلقة غير مقسمة وغير محدودة وذات سيادة، تضمن بناء نظام حكم مدني لا يخضع للدمار من الداخل. فبعد أن عاش فترة التفكك السياسي التي بلغت ذروتها في الحرب الأهلية الإنجليزية، توصل إلى وجهة نظر مفادها أن الأعباء التي تتحملها حتى أكثر الحكومات قمعًا تعدّ هيّنة مقارنة بالبؤس والمصائب الفظيعة التي تصاحب الحرب الأهلية، لأن أي حكومة ستكون أفضل من الحرب الأهلية، ولأن جميع الحكومات باستثناء الحكومات المطلقة معرّضة بشكل منهجي للتفكك والدخول في حرب أهلية.

ومن هنا، يجب على الناس أن يُخضعوا أنفسهم لسلطة سياسية مطلقة. ولتحقيق الاستقرار، فإن عليهم أن يمتنعوا عن الأعمال التي قد تقوّض هذه السلطة السيادية، وألا يتنازعوا معها، أو يتمردوا عليها تحت أي ظرف من الظروف، بما يحقق العلاقة المتبادلة بين الطاعة السياسية والحصول على الأمن والسلام. ويتضمن العقد الاجتماعي قيام الناس بتفويض السلطة السيادية، والالتزام بما يصدر عنها، شريطة أن تكون قادرة على حماية الناس، على أن ينتهي هذا الالتزام السياسي عندما تعجز السلطة عن الحماية.

وبغض النظر عن سلوكيات الاستبداد التي قد تنتهي إليها السلطة المطلقة، فإن هوبز يعتقد أن فرض قيود على سلطة الحكومة يعني إثارة نزاعات لا يمكن حلها، إذا ما تجاوزت السلطة حدودها. ولتجنب الاحتمال الرهيب بانهيار الحكومة والعودة إلى حالة الفوضى والحرب والمعاناة، فإن على الناس معاملة صاحب السيادة على أنه يتمتع بسلطة مطلقة، وعليهم طاعته حتى في الأوامر التي يعتقدون أنها خاطئة، دون خوف من العقاب الإلهي، فإنه يتحمل عنهم مسؤولية ذلك أمام الخالق.

وفي تناقض واضح مع هذا المفهوم؛ يحتفظ هوبز للرعايا بحق عصيان بعض أوامر السلطة المطلقة إذا كانت تهدد حياتهم، ويعطيهم الحق في الدفاع عن النفس ضدها، عندما تكون حياتهم في خطر. كذلك يمنحهم حقوق مقاومة واسعة على ما يبدو في الحالات التي تكون فيها عائلاتهم أو حتى شرفهم على المحك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.