بعد أن تناولنا في المقال السابق رؤية الفيلسوف إيمانويل كانط للدين بالعقل والدين والوحي والمعجزات، نتناول هنا نظريته الأخلاقية التي أسهمت بشكل كبير في بلورة مسؤوليات السلطة السياسية الخاصة بالتشريع وسن القوانين. فعلى غرار رؤيته الخاصة بالدين، والتي تقوم على إيمان العقل المرتبط بعلاقة خاصة بالخالق، وإنكار الوحي والمعجزات؛ قدّم كانط نظريته الأخلاقية التي حوّل فيها الأخلاق إلى قوانين، وميّز فيها بين القوانين الأخلاقية الصادرة عن العقل ذي الإرادة الحرة، والأخلاق الطبيعية الصادرة عن الدين والطبيعة البشرية والقيم الاجتماعية. واعتبر فيها أن القوانين الأخلاقية ملزمة بالضرورة، يساهم الأفراد في تشريعها بإرادتهم الخاصة عن طريق الهيئات التمثيلية، ويلتزمون بها كواجب أخلاقي قطعي، بغض النظر عن تلبيتها أو عدم تلبيتها للمنافع الذاتية. وبهذه النظرية، يكون كانط قد فصل تماماً بين الأخلاق المستمدة من الدين والطبيعة والمجتمع، لتتحول في العصور اللاحقة إلى آلية تشريعية عقلانية يقوم بها الأفراد عن طريق السلطات التي تمثلهم في الدولة الغربية المعاصرة.
يرى كانط أن تطبيق القوانين على البشر واجب أخلاقي، وأن الإرادة البشرية الحسنة التي يكون فيها القانون الأخلاقي حاسماً لا تكون جيدة إذا كانت غير مدفوعة بالواجب الأخلاقي الذي يجبرنا على التصرف بطرق محددة نكون مطالبين فيها أخلاقياً بالقيام بواجبات معينة.
المبدأ الأساسي لفلسفة كانط الأخلاقية
تقوم فلسفة كانط الأخلاقية على مبدأ "الضرورة الإلزامية" أو "الحتمية" (Categorical Imperative)، وتعني ضرورة التزام الفرد بالواجب الأخلاقي، بشكل غير مشروط في جميع الظروف، على ألا يتأثر هذا الالتزام بميول الأشخاص أو رغباتهم الخاصة.
ويعتبر كانط هذا المبدأ ضرورياً وعقلانياً يجب اتباعه بالرغم من أي رغبات طبيعية مخالفة قد تكون لدينا. كما يعتبر أن جميع الأفعال تكون غير أخلاقية وغير عقلانية عندما تنتهك هذا المبدأ.
والأخلاق التي يتحدث عنها كانط هي تلك التي نستمدها من العقل مباشرة، وليس من الطبيعة الإنسانية أو عادات الناس، وهي مجموعة المبادئ الأخلاقية التي تطبق "الضرورة الإلزامية" على البشر في جميع الأزمنة والثقافات، وصولاً إلى تصور دقيق للمبدأ أو المبادئ التي تستند إليها جميع الأحكام الأخلاقية العادية، باعتبارها مطلبًا لإرادة كل شخص عقلاني يمتلك إرادة عقلانية مستقلة. ويرى كانط أن هذا المبدأ يعطي قدراً من الاعتبار لطبيعة ومدى الواجبات الأخلاقية المحددة التي تنطبق على الأفراد، كما يعتقد أن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تميز وتشرح المطالب التي تفرضها الأخلاق على علم النفس البشري وأشكال التفاعل الاجتماعي البشري.
ويعتقد كانط أن أعظم خير للبشرية هو فضيلة أخلاقية كاملة جنبًا إلى جنب مع السعادة الكاملة، والأولى هي شرط استحقاقنا للأخيرة، دون اعتبار للرفاهية التي قد ينتظرها الإنسان، والتي قد تتعارض مع الفضيلة الأخلاقية.
العناصر التي تقوم عليها فلسفة كانط الأخلاقية
يقوم مبدأ “الضرورة الإلزامية” على 3 عناصر رئيسية تتكامل فيما بينها لتشكّل النظرية الأخلاقية عند كانط، وهذه العناصر هي: الإرادة الحسنة والدافع الأخلاقي والواجب الأخلاقي.
وتعتبر فكرة الإرادة الحسنة أساسية عند كانط في جميع أعماله، فهو يرى أن ما يجعل الشخص الصالح جيدًا هو امتلاكه لإرادة يتم تحديدها بطريقة معينة، أو اتخاذ قراراتها على أساس المبادئ الأخلاقية الأساسية، فالإرادة الحسنة عنده هي الإرادة التي يتم تحديد قراراتها بالكامل من خلال المطالب الأخلاقية أو من خلال القانون الأخلاقي، بغض النظر عما يمكن أن يشعر به البشر من قيود على رغباتهم الطبيعية بسبب هذا القانون.
ويعتبر كانط أن تطبيق هذه القوانين على البشر هو واجب أخلاقي. وهو يرى أن الإرادة البشرية التي يكون فيها القانون الأخلاقي حاسماً لن تكون جيدة إذا كانت غير مدفوعة بالقيام الواجب الأخلاقي، ولأن هذه الإرادة لها ميول طبيعية، فإنها تستجيب بالضرورة للمتطلبات الأخلاقية بشكل تلقائي دون الشعور بأنها مضطرة للقيام بذلك. أما الإرادة الحسنة فتكون عندما يجبرنا دافع الواجب الأخلاقي على التصرف بطرق محددة نكون مطالبين فيها أخلاقياً بالقيام بواجبات معينة. ويرى كانط أن دوافع مثل المصلحة الذاتية، والحفاظ على الذات، والتعاطف، والسعادة..، مهما كان العمل المترتب على أي منها جديراً بالثناء، فإنه لا يعبر عن حسن الإرادة، وليس له قيمة أخلاقية حقيقية، لأن القيمة الأخلاقية تتحقق في العمل فقط إذا كان ينطلق من إرادة ملتزمة بواجب القانون الأخلاقي. فإذا كان المرء مدفوعًا بالسعادة وحدها، وكانت هناك ظروف تمنع قيام المرء بواجبه وتحقيق سعادته الخاصة في الوقت نفسه، فإنه لن يقوم بواجبه حفاظاً على سعادته. وعلى النقيض من ذلك، إذا استبدل المرء أيّاً من هذه الدوافع بدافع الواجب، فإن أخلاقيات العمل ستعبر بعد ذلك عن تصميم المرء على التصرف بواجب احترام القانون الأخلاقي نفسه بغض النظر عن القيمة الذاتية المتحققة له، وعندها فقط يكون للعمل قيمة أخلاقية.
ويرى كانط أنه يجب الالتزام الصارم بعدم القيام بالعمل إذا كان محظوراً أخلاقياً، والقيام بالعمل إذا كان مطلوباً أخلاقياً، وبهذا تتوافق الإرادة الحسنة مع المشاعر والعواطف بمختلف أنواعها، وحتى مع السعي إلى تنمية بعضها لمواجهة الرغبات والميول الخاصة التي تغرينا بالفسوق.
أما الدافع الأخلاقي فهو الاحترام الصريح للقانون الأخلاقي، والواجبات الأخلاقية هي القواعد والقوانين المقترنة بنوع من القيد أو الحافز المحسوس على اختياراتنا، سواء من الإكراه الخارجي من قبل الآخرين أو من قوى العقل الخاصة بنا. وعلى سبيل المثال، فإن اللوائح الداخلية للنادي تحدد واجبات ضباطه وتفرض عقوبات عليهم، وكذلك تحدد قوانين المدينة والدولة واجبات المواطنين وتطبقها بسلطة قانونية قسرية، وبالتالي؛ فإن التزمنا بهذه اللوائح والقوانين جاء بدافع احترامها.
ويعتقد كانط أننا، في التصرف تجاه الواجب، لسنا مدفوعين على الإطلاق بنتيجة مستقبلية أو ببعض السمات الخارجية الأخرى لسلوكنا، إلا بقدر ما تكون هذه متطلبات الواجب بحد ذاتها. نحن مدفوعون أخلاقياً لمجرد امتثال إرادتنا للقانون في حد ذاته. فاحترام القانون الأخلاقي والاعتراف به، من وجهة نظر كانط، هو الدافع للقيام بالمتطلبات الأخلاقية.
وانطلاقاً من مبدأ “الضرورة الإلزامية”، فإن الواجبات الأخلاقية ضرورية وإلزامية، لأنها موجهة إلى المعنيين الذين يجب عليهم اتباعها دون قيد أو شرط لأنهم يمتلكون الإرادة، على خلاف المقتضيات التي قد تواجهنا في بعض الأحيان خلاف واجباتنا الأخلاقية.
وقد قسم كانط الواجبات الأخلاقية إلى 4 فئات: الواجبات الكاملة تجاه أنفسنا، الواجبات الكاملة تجاه الآخرين، الواجبات غير الكاملة تجاه أنفسنا، الواجبات غير الكاملة تجاه الآخرين. فالامتناع عن الانتحار واجب كامل تجاه النفس، والامتناع عن تقديم وعود ليس لديك نية للوفاء بها هو واجب كامل تجاه الآخرين، وتنمية مواهب المرء واجب غير كامل تجاه نفسه، والمساهمة في إسعاد الآخرين واجب غير كامل تجاه الآخرين.
يعتبر كانط الفضيلة أنها قوة إرادة للمرء على القيام بالواجب الأخلاقي، وليست تصرفاً صادراً عن العواطف أو المشاعر أو الرغبات، أو غيرها من سمات الطبيعة البشرية، فالفضيلة ترتكز على المبادئ الأخلاقية، أما الرذيلة فتعتبر انتهاكاً للقانون الأخلاقي.
صيغ الضرورات الإلزامية
وضع كانط عدداً من الصيغ التوضيحية لمبدأ "الضرورة الإلزامية"، تشير إلى أبعاد جديدة في الفلسفة الأخلاقية، كالعالمية والإنسانية، والتي أصبحت فيما بعد ركائز في القانون الدولي، وهذه الصيغ هي:
صيغة القانون العالمي
يرى كانط أن علينا أن نضع في الاعتبار، عندما نشرّع القوانين الأخلاقية، أنها مناسبة في الوقت نفسه لتصبح قوانين عالمية، فهو يرى أن الفكر الأخلاقي العادي يعترف بالواجبات الأخلاقية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، ويميز بين الواجبات الكاملة وغير الكاملة. ويرى كانط أن إرادة كل كائن عقلاني هي إرادة تشرّع للقانون العالمي، حيث يمكنه التصرف من خلال مبادئه ليكون مُشرِّعًا للقوانين العالمية. في هذه الحالة، نركز على وضعنا كمشرعين للقانون العالمي بدلاً من كوننا متبعين للقانون العالمي، حيث من المفترض أن يصوغ كل منا القانون الأخلاقي نفسه، وبمعنى ما "يوحد" الصيغ الأخرى داخله.
صيغة الإنسانية
يرى كانط أنه وفقاً لمبدأ "الضرورة الإلزامية" علينا مراعاة التعامل مع الإنسانية، سواء في أنفسنا أو في الآخرين، باعتبارها دائماً غاية في حد ذاتها، وليس وسيلة، ويتطلب ذلك احترام الإنسانية في الأشخاص، الاحترام اللائق بشيء ذي قيمة أو قيمة مطلقة يتطلب احترامه.
صيغة الاستقلالية
استكمالاً للحالة العالمية والإنسانية، يفترض كانط أن الاستقلالية تقوم بإظهار مصدر الكرامة الإنسانية وقيمها، ووضع البشر كفاعلين عقلانيين أحرار، باعتبارهم مصدر السلطة الكامنة وراء القوانين الأخلاقية التي نلتزم بها. ويعتبر كانط الاستقلالية مفتاحًا لفهم وتبرير سلطة المتطلبات الأخلاقية علينا. ويرى أن الاستقلالية لا تكتمل إلا بالحرية، الحرية بالالتزام بالقوانين التي وضعها البشر، فالإرادة العقلانية لا يمكن أن تعمل إلا بامتلاك الحرية الخاصة بها. وهكذا تكون الشرعية الأخلاقية تعبيراً عن الإرادة العقلانية للأفراد. ويكون الفرد هو المشرّع من خلال الهيئات التشريعية، وهو أيضاً منفذ القانون الأخلاقي الذي شارك في وضعه، وله السلطة عليه.
صيغة مملكة النهايات
يرى كانط أن الإرادة العقلانية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوحدة القوانين العامة، وأنه وفقاً لمبدأ "الضرورة الإلزامية" فإنها تعمل في النهاية على وضع قوانين عالمية، عن طريق ما يمكن اعتباره الهيئة التشريعية الأخلاقية المثالية، وتكون هذه بمثابة "مملكة عالمية ممكنة" يتمتع كل فرد من أعضائها بالتساوي في المساهمة في تشريع القوانين.
ومن هنا يعتبر كانط الفضيلة أنها قوة إرادة المرء على القيام بالواجب، وليست تصرفاً صادراً عن العواطف أو المشاعر أو الرغبات، أو غيرها من سمات الطبيعة البشرية، فالفضيلة ترتكز على المبادئ الأخلاقية، أما الرذيلة فتعتبر انتهاكاً للقانون الأخلاقي. ويميز كانط بين الفضيلة، وهي قوة الإرادة، والفضائل الخاصة، التي هي التزامات بأهداف أخلاقية معينة نحن مطالبون أخلاقياً بتبنيها. ومن بين هذه الفضائل تلك المتعلقة باحترام الذات، الصدق، الادخار، تحسين الذات، الإحسان، الامتنان، التواصل الاجتماعي، التسامح. كما يميز الرذائل الخاصة، والتي هي التزام ثابت بالفجور، وتنطوي على رفض تبني غايات أخلاقية محددة أو الالتزام بالعمل ضد تلك الغايات، كالحقد، الشهوة، الشراهة، الجشع، الكسل، الانتقام، الحسد، الخنوع، الازدراء، الغطرسة.