شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. هل كان إيمانويل كانط مؤمنًا؟ (15)

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط (مواقع التواصل الاجتماعي)

قبل أن نطوي صفحة الفلسفة الأخلاقية في عصر التنوير، لا بد لنا من الوقوف عند واحد من أكثر الفلاسفة تأثيرًا في توجيه المسار الجديد للفكر الديني والأخلاقي في القرنين الـ19 والـ20 الميلاديين، وبدء تشكيل علاقة الدول الغربية وشعوبها بالدين والإيمان والمؤسسة الدينية، والفصل التام بينها وبين السياسية، بعد تقديم العقل الحر كمرجعية تشريعية وحيدة.

إنه الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط، آخر فلاسفة عصر التنوير، وأحد أبرز رواد الفلسفة الأخلاقية حتى يومنا هذا، وأكثرهم تأثيرًا في الفلسفة الغربية الحديثة. جمع كانط بين الاتجاهين العقلي والتجريبي، واستفاد مما قدمه فلاسفة الاتجاهين، السابقين له والمعاصرين، ليقدم نظرية متكاملة في الأخلاق، تناول فيها أبعادًا وقضايا جديدة لم يتطرق إليها الفلاسفة الآخرون، ما زالت تثير نقاشًا كبيرًا حتى اليوم. ونتناول في هذا المقال رؤيته الجديدة للدين والإيمان، وعلاقتهما بالعقل والحرية والأخلاق.

نشأ إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1804 – 1724م) في بيت شديد التدين، وتربى تربية دينية أخلاقية متشددة أساسها التفاني والإخلاص في خدمة الدين والتواضع مع الناس، والتفسير الحرفي للكتاب المقدس، الذي درسه إلى جانب الرياضيات والعلوم، قبل أن يلتحق بجامعة كونيسبيرغ، ليتعلم فيها الفلسفة والتربية والرياضيات والفيزياء والجغرافيا، وليضع نظرية جديدة في الفلسفة الأخلاقية، مزجت بين الاتجاه العقلي الذي يرى أصحابه أن المعرفة لا تأتي إلا عن طريق العقل، والاتجاه التجريبي الذي يرى أصحابه أن المعرفة لا تأتي إلا عن طريق التجربة والملاحظة.

هذه النظرية هي نظرية المعرفة التي يرى فيها كانط أن العقل دون التجربة لا يقود إلى شيء، وأن التجربة لا بد لها من العقل، ولا تعترف بوجود المسبب الأول الذي يعترف به العقل المجرد. عمل كانط أثناء دراسته في العديد من المهن ليستعين بها على تغطية نفقات الدراسة، فعمل معلمًا للأطفال، وأمينًا لمكتبة عامة. وعرف عنه في حياته الشخصية حبه للمرح والنظام والانضباط وعدم التغيير، وكان لا يحب التنقل والأسفار، فظلت تجربته الحياتية محصورة بين التدريس في الجامعة والمطالعة والتأليف.

يؤمن كانط بأن الدّين الأصيل، هو دين العقل المجرد، وليس دين شعب دون آخر، بل هو دين الطبيعة الإنسانية أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري بل بالكائنات العاقلة عامّة. ويعتبر أن الدين الذي يعلن الحرب على العقل من دون تفكير في العواقب، لن يتمكّن من الصّمود طويلاً

من إثبات وجود الله إلى دين العقل

في كتابه المبكر "الحجة الوحيدة الممكنة لدعم وجود الله" عام 1763م، حاول كانط تقديم ردود فلسفية عقلية تثبت وجود الخالق، في وقت اتسعت دائرة الاتجاهات الفلسفية الإلحادية الرافضة لوجود الله، والداعية إلى الانقلاب على الكنيسة والدين جملة وتفصيلاً، حيث أوضح كانط أن الله موجود بالضرورة، حيث إن المادة تحتوي على المبادئ التي تؤدي إلى كون منظم، لا بد أن يكون له كائن أسمى يحتضن في ذاته كل ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان، مما هو ممكن أو حقيقي.

وبعد مرور 30 عامًا على صدور هذا الكتاب، اتسعت فيها مطالعات كانط على ما قدمه الفلاسفة السابقون له والمعاصرون من كافة الاتجاهات، وترسخت فيه تصوراته الفلسفية، أصدر كتابه "الدين في حدود مجرد العقل"، ليقدم لنا رؤيته الجديدة للدين والإيمان، التي تعتبر في ضوء أصول العقيدة كفرًا وإلحادًا، بينما يعتبرها الليبراليون واللائكيون رؤية متقدمة لمعالجة إشكالية الدين في الدولة والمجتمع.

أولاً: في العقل والدين والإيمان والأخلاق

يرى كانط أن كلا من العقل والدين يدوران حول "مركز واحد"، وأن على الفيلسوف أن يكشف النقاب عن هذا المركز، ولكنّ ذلك لا يتسنّى إلاّ لمن قبل بفرضية وجود "دين عقلي مجرد" واعتباره هو الدّين الأصيل، لأنه "دين العقل المجرد، وليس دين شعب دون آخر، بل هو دين الطبيعة الإنسانية أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري بل بالكائنات العاقلة عامّة. ويعتبر أن الدين الذي يعلن الحرب على العقل من دون تفكير في العواقب، لن يتمكّن من الصّمود طويلاً أمامه. والطبيعة الإنسانيّة عند كانط هي الأساس الذاتي لاستعمال حريته عامّة، فالإنسان عنده ليس خيّرًا أو شريرًا بطبعه، وإنما استعماله للحرية هو الذي يجعل منه ذلك عندما يقبل بمسلمات حسنة أو مسلمات سيئة، وبالتالي فهو المسؤول وحده عن خيره وشرّه. وهو يعني بالإنسان الجنس البشري برمته.

يميز كانط بين نوعين من الدين، دين تجاري وأناني، قائم على طلب النّعم والخيرات بواسطة إقامة الشّعائر باعتبارها الدين كلّه، ودين خلقيّ، كريم ومتواضع بشكل رائع، هو "دين السّيرة الحسنة" فحسب. وفي النوع الثاني، لا يكون المطلوب هو أن يعرف ماذا يريد الله أن نفعل من أجل أن يعيننا على خلاصنا، بل ماذا يجب علينا أن نفعل من أجل أن نكون أهلاً لعونه لنا وأهلاً لذلك الخلاص.

وبناءً على ذلك يميز بين إيمان جامد يقدّم نفسه بوصفه علمًا جازمًا، متكبّرًا، متغطرسًا، وإيمان متفكّر يخجل من الانزلاق إلى الأفكار المفارقة التي تتخطى حدود العقل، ولأنّ المرء لا يستطيع أن يخدع عقله فإنّه لن يجد أيّ مصدر أصلي لأخلاقه وإيمانه مثل حريته، حيث يعتقد كانط أنّ الأخلاق مقام مناسب تماما للتحرّر من إيمان الخرافة، وأن من يرفض تحرّره بنفسه يزاول ضربًا مقيتًا من "الكفر الأخلاقي" بفكرة (الخالق) نفسها التي يحملها في عقله.

ثانيًا: في التشريع

يرى كانط أن فكرة (الخالق) في عقولنا هي وحدها التي يحقّ لها أن تشرّع للجماعة الأخلاقيّة، ولا يحقّ للمشرّع أن يضع دستورًا موجهًا نحو الغايات الأخلاقية بعيدا عن الأوامر الإلهية وقوانين الفضيلة، وأن على الدولة أن تترك المواطن حرًّا تمامًا في أن يدخل أو لا يدخل في اتحاد أخلاقي مع غيره. ويميز كانط بين مشرّع الجماعة الحقوقيّة ومشرّع الجماعة الأخلاقيّة، ففي السياسة يكون الشعب هو ذاته واضع الدساتير؛ أمّا في الجماعة الأخلاقيّة فإنّ الشّعب لا يحق له أن يضع المبادئ الأخلاقية.

ومن أجل ذلك، يعتقد كانط أن الدّين ضرب من الإيمان العقلي الذي لا يحتاج في تصميمه أو قوّته أو صدقيته إلى أيّ ضمان خارجي، فالإيمان الدّيني المحض هو مجرّد إيمان عقلي يمكن تبليغه إلى أيّ كان بغرض الإقناع؛ في حين أنّ إيمانًا تاريخيا مؤسّسا على الوقائع فحسب، لا يمكن أن يمدّ تأثيره أبعد ممّا يمكن للأخبار المتعلقة بالقدرة على الحكم على مصداقيته، أن تبلغ إليه تحت ظروف الزّمان والمكان. ويميز بين دين العبادات الخاضعة إلى قوانين نظاميّة ليس لها من صلاحيّة سوى صلاحية أحكامها المفروضة؛ وبين الدّين الخُلقي المحض، النّابع من العقل البشري إلى غاية نهائية لمصير البشر على الأرض. ولكن لأنّ العقل البشري واحد، ولأنّ الجنس البشري واحد، فإنّه لا يمكن لنا التفكير إلاّ في إله واحد، وبالتّالي لا يمكن أن يوجد بالنّسبة إلى عقولنا إلاّ دين واحد.

يرى كانط أن دين العقل هو "إيمان عقلي محض" يمكن لأيّ إنسان أن يبلغ إليه بواسطة عقله الخاص المجرد، مدللاً على ذلك بأن إرادة الله مكتوبة في قلوبنا بشكل متأصّل، وهو أمر يرغب كلّ دين نظامي في التغافل عنه، وعليه فإن التشريع الصادر عن إرادتنا هو تشريع خُلُقي ملزم، وأن التشريع النظامي القائم على الوحي لا يمكن أن يكون إلاّ حادثًا عرضًا، وليس ملزمًا للناس عامة

ويربط كانط الدين بالعقل تماما معتبرًا أن الإيمان به هو الإيمان المحض، ويرى أن كلّ من يقبل الخضوع إلى قوانين نظامية لهذا الإله أو ذاك، فإنّ إيمانه لن يكون سوى إيمان تاريخي لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي المنقول عبر الأجيال، أمّا دين العقل فهو إيمان عقلي محض يمكن لأيّ إنسان أن يبلغ إليه بواسطة عقله الخاص المجرد، ويدلل على ذلك بأن إرادة الله مكتوبة في قلوبنا بشكل متأصّل، وهو أمر يرغب كلّ دين نظامي في التغافل عنه، وعليه فإن التشريع الصادر عن إرادتنا هو تشريع خُلُقي ملزم، والتشريع النظامي القائم على الوحي لا يمكن أن يكون إلاّ حادثا عرضا، وليس ملزما للناس عامة.

يعطي كانط العقل اعتبارًا فوق كل الاعتبارات، ويعتقد أنّ الشيء الوحيد الكوني فينا هو عقولنا، من حيث تعبيرها عن ملكات الطبيعة الإنسانية المجردة، وأنه لا يحقّ لأيّ وحي أن يتعالى على هذه الإمكانات الأصلية في العقل البشري، وأن الدّين الخُلُقي مدفون في صلب العقل البشري، ولذلك لا يمكن لأيّ دين نظامي أن يدّعي الكونية الصحيحة.

ثالثًا: في الاستبداد الديني

يرى كانط أن الاعتماد على العقل البشري المجرد وحده؛ يحقّ له أن يحثّ بني البشر أجمعين على الخروج من إيمان الكنائس الذي لا يتميّز عن الجماعة السياسيّة إلى إيمان الدّين المحض الذي لا يمكن أن يأخذ إلاّ شكل الجماعة الأخلاقيّة. عندئذ علينا نحن أنفسنا أن نحقّق الفكرة العقليّة لهذا النوع من الجماعة الأخلاقيّة بعيدا عن أيّ قوانين نظاميّة تقدّم نفسها على أنّها إلهية، حيث يتمّ فرض قيد على الجموع بواسطة لوائح كنسيّة، تحت دعوى نفوذ إلهي، وهو يعتبر أن كل معتقد نظامي يقود في آخر المطاف إلى تصنيف الناس إلى كفار ومؤمنين.

ويعتقد كانط أنه ينبغي تعليم الإنسانيّة أنّه لا يوجد إلاّ دين (حق) واحد؛ إلاّ أنّه يمكن أن تكون ثمّة ضروب كثيرة من المعتقدات، وأنه لا مخرج من الاستبداد الدّيني إلاّ بالتّنبيه على وجود مبادئ خُلقيّة كونيّة للإيمان متقاسمة بين العقول كافّة، وأن العقائد النظاميّة مجرّد "تمثيل رمزي" لها.

ويرى أنّ معرفة الكتاب المقدّس ضروريّة جدّا من أجل تأويله بشكل صحيح؛ لكنّ الدّين العقلي المحض هو الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدّم تأويلاً مناسبًا للطبيعة البشريّة بعامّة، ومن ثمّ فهو يصلح بشكل حقيقي للنّاس كافة. ولذلك يرى أنّ كلّ خطوة يخطوها النّاس من الإيمان الكنسي والدّين النّظامي إلى الإيمان العقلي المحض ليست حيادًا عن الدّين الحقّ بقدر ما هي خطوة تقرّب النّفوس أكثر فأكثر من ملكوت الله في الأرض.

ويرى أن إيمان الشعائر هو إيمان السُّخرة والأجر، إيمان المرتزقة الذليل، ولا يمكن أن يُنظر إليه بوصفه إيمانًا مخلّصًا، لأنّه ليس خُلقيًّا. ولأن الإيمان المخلّص ينبغي أن يكون إيمانًا حرًّا، لا يحتاج إلى أيّ طقوس حتى يُقنع رجال الدين النظامي بجدارته، فهو يحمل (الله) في قلبه بوصفه فكرة الخير القصوى الممكنة لنا.

ويرى أن العديد من المناسك والشعائر لا تمتلك أي قيمة خلقية، وأن أداء الشعائر هو عقيدة نظاميّة تمّ إدخالها بهدف مصالحة الشّعب مع السّماء، وإبعاد البلاء عن الدولة، وصار الإيمان تجارة أخرويّة قائمة على تسديد الدّيون التي لا يمكن أن يقع تسديدها أبدًا، وهذا يقتضي الطاعة النهائية لسلطة دينية مستبدّة، ويرى أن ذلك ينتهي لا محالة إلى التضحية بشرف الطبيعة الإنسانيّة وكبرياء العقل البشري، وقدرته على التّشريع لنفسه فيما يجب وما لا يجب أن يؤمن به بكلّ حريّة، معتبرًا أنّ الإيمان الحرفي بأنّ الله يفعل بنا ما يشاء هي بمثابة القفزة المميتة للعقل البشري، ويرى أن العدوّ الحقيقي ضد فكرة الدّين ليس العقل بل عقيدة كنسية استبداديّة، تسعى لبسط هيمنتها على السلطة والشعب.

ومع ذلك يرى كانط أن من مصلحة العقل، على المستوى المدني، أن يبقى الدّين صالحًا على الصّعيد الأخلاقي، حيث دعا إلى مواصلة استعمال الكتاب المقدّس، والحيلولة دون إضعاف قيمته شريطة ألا نفرض على الناس الإيمان بذلك بوصفه أمرًا مطلوبًا للخلاص.

ويعتبر كانط أن كلّ أشكال الترهّب والتعصّب والهوس الدّيني الذي تقوم به الكنيسة؛ تجعل عددًا كبيرًا من النّاس دون جدوى لهذا العالم. ويرى أن المعجزات مزعومة، وهي لم تؤدّ إلاّ إلى إرهاق كاهل الشّعوب بقيود ثقيلة تحت تأثير خرافة عمياء وأمّا الأرثوذكسيّة التي تدّعي احتكار تأويل الكتاب المقدس فهي لا تفعل سوى خلق تراتبيّة كاذبة في الفهم وفرضها على أناس أحرار، وفتح الباب أمام الانشقاقات والفتن التي أصابت العالم المسيحي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.