ذكر الله تعالى في سورة يونس -في سياق قصة موسى (عليه السلام) وقومه مع فرعون وملَئِه- الإجراءات التي أمر الله نبيه موسى أن يتخذها، والتي يمكن أن تخفف من أذى فرعون لهم، وترسم خطة مغايرة للنجاة منه والفرار منه. [تفسير سورة يونس، ص 285].
قال الله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} [يونس: 87].
وإن الآية تشير إلى أهمية الأخذ بالأسباب، وربط ذلك بالتوكل على الله من خلال سياق الآيات الكريمة التي جاءت في الموضوع، والتوكل على الله تعالى لا ينافي الأخذ بالأسباب، والدعاء سبب للمقصود، فمن أخذ بالأسباب واعتقد أن الله هو الخالق ولا تأثير للأسباب في خلق المسببات كان متوكلا، ومن ترك الأخذ بالأسباب التي ينبغي له أن يأتي بها مع التمكن من فعلها كان عاجزا. [التفسير الموضوعي، 3/539].
وقد قال رسول الله ﷺ: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز". وقال أيضا: "إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل".
الكياسة أي النباهة والتفطن بإتيان الأسباب المشروعة الموضوعة للمسببات، وترك ذلك ليس من التوكل في شيء ولا مما يقتضيه الإيمان بالقدر
الكياسة أي النباهة والتفطن بإتيان الأسباب المشروعة الموضوعة للمسببات، وترك ذلك ليس من التوكل في شيء ولا مما يقتضيه الإيمان بالقدر، بل هو من الجهل بالشرع والقدر.
فالقدر لا يدل على مجرى الأمور بمحض المصادفة والاتفاق، بل يدل على إجرائها وفق نظام خاص ووضعها على قدر معين، بحيث تؤخذ الأسباب من أسبابها، ولهذا أوحى الله إلى موسى أن يأمر قومه أن يأخذوا بأسباب السلامة والوقاية من ظلم فرعون وبطشه، مع الإكثار من عبادته والتوكل عليه سبحانه. [التفسير الموضوعي، 3/540].
- ﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه﴾:
- ﴿وأوحينا﴾: الواو عاطفة أو استئنافية، والإيحاء والإعلام له عدة صور، ولكنه في حق الأنبياء غالبا ما يكون بوساطة إخبار الملَك الموكل بنقل الرسائل وهو جبريل (عليه السلام)، فهو رسول الله إلى كل رسل الله، وقد يكون بغير ذلك من طرف الإيحاء والله أعلم، وأضاف الإحياء ونسبه إلى نون العظمة لتعظيم شأنه. [تفسير سورة يونس، ص 285].
- ﴿إلى موسى وأخيه﴾ أي: أن الوحي شمل كلا من موسى وهارون عليهما السلام، بحيث إذا جاء موقف من المواقف يقتضي أن يتكلم فيه موسى، فهارون أيضا يمكن أن يتكلم في الأمر نفسه، فالرسالة واحدة والمنهج واحد [تفسير الشعراوي، 10/6159].
- كما أن الموقف يقتضي أن يتحمل الجميع كامل المسؤولية، بم كان الإيحاء؟ فسرته ﴿أن﴾ وما بعدها.
- ﴿أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا﴾: كل الناس يسكنون بيوتا بدءا من بيوت الصفيح والعشوائيات إلى الفلل والقصور الشاهقات بالربوات، فما معنى هذا التوجيه وما مقصد هذا الأمر؟
أرى، والله أعلم أن المطلوب التجمع تحضيرا ليوم المغادرة، فلا يبقى بنو إسرائيل موزعين في الأقاليم والمحافظات والنجوع والبنادر والكفور والقرى والعزب والمضارب والمدن، ولكن فليتجمعوا في أماكن متقاربة، ليسهل استنفارهم والتحرك بهم للخروج الكبير من مصر، وهذه الآية تكذب دعاوى بني إسرائيل عن أعدادهم المهولة وقت هذا الخروج، إذ يزعمون أن الرجال فقط كانوا 600 ألف فما شأن الأطفال والنساء والعجزة من القوم؟ فهم على هذا لا أقل من 4 إلى 5 ملايين، وهو ما يكذبه العلامة ابن خلدون، فيحسب تكاثرهم منذ كانوا عائلة يعقوب عليه السلام وأولاده إلى الخروج، بحسب ما قالوا هم من عدد السنين ومن عدد الأجيال، فيرى أنه من المستحيل أن يكونوا كما زعموا.
ولدى بني إسرائيل "عقد نقص" فهم دائما يزيدون أعدادهم فرارا وتخلصا من عقدة الشعور بالأقلية، فقتلى الهولوكوست 6 ملايين لا يقبلون حذف واحد، بل هم رقم صحيح بلا كسور، وعندما ناقشهم جارودي علميا، حسب مزاعمهم، استنتج أنه يستحيل أن يزيدوا على 600 ألف، وأنهم فقط أضافوا صفرا.
الأمر بسكنى البيوت تحصيل حاصل، وإنما مراده بيوتا متقاربة يمكن التواصل بينها وسرعة نقل المعلومة أو الخبر، واليهود ما زالوا وسيظلون في كل مكان يسكنون أحياءهم الخاصة، ويتجمعون في "غيتوات" (جمع غيتو أي منطقة مغلقة معزولة عليهم خاصة بهم)
فهذا المفكر ناقشهم، وأبطل مزاعمهم، فإنهم لم يقارعوه دليلا بدليل وحجة بحجة ورأيا برأي، بل لجؤوا إلى المحاكم المسيسة والمنحازة لهم، فحوكم المفكر الكبير، وحُكم، وحُرم من أن ينشر في أي دورية أو أن تنشر له دار نشر كتابا، وأن تضع مكتبة كتابا من كتبه في مقتنياتها أو واجهاتها أو أرففها. [تفسير سورة يونس، ص 286].
وعندما ناقشهم المؤرخ الإنجليزي أرفنج، وهو أستاذ جامعي، وأكاديمي محترم وباحث مجد، عكف 17 عاما على دراسة وثائق الهولوكوست، واستبعد تماما هذا العدد، وإن كان يدين الهولوكوست، وهذا بالطبع ما لا يستطيع غيره أحد وإلا ذاق الهوان، وهذا المؤرخ عندما أعلن رأيه حوكم وحكم بالسجن 5 سنوات، ودفع غرامة 5 ملايين جنيه إسترليني وصودرت كتبه، ولقد حوكم هذا الإنجليزي في النمسا، ولم تعترض بلده بريطانيا، لأن الأمر يمس من يحكمون العالم، فكيف يجرؤ أحد على التدخل، هذا ما حدث ويحدث في حضارة البلاد الغربية! [تفسير سورة يونس، ص 287].
ونعود إلى موضوعنا بعد هذا التوضيح العام، فالأمر بسكنى البيوت تحصيل حاصل، بل مراده بيوتا متقاربة يمكن التواصل بينها وسرعة نقل المعلومة أو الخبر، واليهود ما زالوا وسيظلون في كل مكان يسكنون أحياءهم الخاصة، ويتجمعون في "غيتوات" (جمع غيتو، أي منطقة مغلقة معزولة عليهم خاصة بهم).
- ﴿واجعلوا بيوتكم قبلة﴾: وهذه تحتاج إلى تأمل، فهل معناها أن يجعلوا بيوتهم مصلياتهم أو مصلياتهم بيوتهم، وكثيرا ما تثير دور العبادة حساسيات عند المتطرفين، وهذا ما يعانيه المسلمون في الغرب هذه الأيام مع بروز اليمين المتطرف في كل أوروبا، وظهور القوميين المتعصبين والتدين المنغلق المتشدد بين الأوروبيين وإن ظن العالم أن أوروبا هي رمز الانفتاح.
- ﴿وأقيموا الصلاة﴾: حافظوا على صلواتكم، وأقيموها بأركانها وروحها كما يرضي ربكم ليرضى عنكم ربكم، فالصلاة عونكم ومددكم، ولذا قال الله لكم في سورة البقرة: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾، وعندما حمل النبي العظيم الدعوة أوصاه ربه بالصلاة والقيام بالليل، ليستمد من الله -من خلال الصلاة بين يديه- العون والمدد لمواجهة الصعاب. [تفسير سورة يونس، ص 288].
- ﴿وبشر المؤمنين﴾: التبشير والاستبشار والأمل والرجاء، كلها مطالب غالية مهمة، فاليأس قاتل، بل هو أخطر عدو، بل هو الكفر بعينه: ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ [يوسف: 87]، واليأس وانعدام الأمل وإغلاق نافذته أقصر الطرق إلى الهزيمة والانكسار والتهدم والانهيار، ولذلك فإن الذين يشيعون اليأس وينشرون الإحباط هم رمز الخراب، ولذا كان نهج نبينا عليه الصلاة والسلام التبشير والاستبشار وبث روح الأمل والتفاؤل والثقة واليقين والآيات في هذا المعنى كثيرة.
اتخذ بنو إسرائيل بيوتا خاصة بهم، وذلك للعمل على تنظيم أنفسهم والاستعداد للرحيل من مصر في الوقت الذي يأذن الله فيه، والآية تعلمنا أهمية التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية، وهما معا ضرورتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات
وعموما، فقد اتخذ بنو إسرائيل بيوتا خاصة بهم، وذلك للعمل على تنظيم أنفسهم والاستعداد للرحيل من مصر في الوقت الذي يأذن الله فيه، والآية تعلمنا أهمية التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية، وهما معا ضرورتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات، وقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب لا تزال إلى يومنا هذا تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر لا تساوي شيئا كثيرا في ساعة الشدة، وتلك التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة لتكون لهم فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبَّر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة، وكذلك كانت الحال في عهد فرعون في هذه الفترة. [في ظلال القرآن، 3/1816].
وهنا يرشدنا الله إلى دروس وعبر وفوائد للاستفادة منها من خلال الآية الكريمة التي تبين لنا أن:
- التخطيط مهم في حياة الأفراد والأمم والقادة والشعوب.
- القادة التاريخيين هم من يضعون التاريخ.
- الأنبياء هم أعظم القادة ومن يفصلون الدين عن الحياة يظنون أن الأنبياء وعاظ.
- التجمع قوة، ورص الصفوف مهم في تحقيق التغيير والإنجازات الإستراتيجية.
- الدين هو محرك التغيير في العالم.
- الاستشارة منهج في التغيير، واليأس أقصر السبل لبقاء الخراب.
- ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب " موسى (عليه السلام) كليم الله"، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في أكثر مادته على كتاب "تفسير سورة يونس" للدكتور أحمد نوفل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.