حكم فرانسيسكو فرانكو إسبانيا بيد من حديد ما يقرب من 36 سنة، وأدار المستعمرات بجنرالاته الموالين لرؤيته ونمط تدبيره وسياسته، وكان للمغرب نصيب من محنة الابتلاء بالعقلية العسكرتارية لهذا الجنرال.
داخليا، شن هذا الجنرال حملة تكميم الأفواه وضرب الطوق على الصحافة والرأي العام. وخارجيا، أبدى نزوعا نحو رفض مقولات التغيير والانتقال الديمقراطي والحداثة السياسية، ولم ير في موجة الانتقال الديمقراطي التي اجتاحت أميركا اللاتينية والبرتغال واليونان أواسط سبعينيات القرن العشرين إلا "ثورات" عابرة يمكن قمعها أو التغاضي عنها ريثما تهدأ عواصفها.
ومن جانبهم رأى متابعون وسياسيون ومعارضون أن تصلب إسبانيا واستمرار استبداد نظامها مؤد بها لا محالة إلى العزلة الدولية، والعزلة الإقليمية في نطاق أوروبا التي بدورها صارت تنفر من الجنرال وسياسة التوسع الخارجي وقتل المعارضين ونبذ التعددية الحزبية، فانتظموا في مواقف مطالبة بالتغيير، وشعارهم "إذا كانت إسبانيا هي المشكلة فإن أوروبا هي الحل" واضعين الأمل في بيتهم الأوروبي ليحتضن رغبتهم في الانتقال الديمقراطي الذي صار يطرق الأبواب، لا سيما مع تدهور الحالة الصحية لفرانكو وموت بعض كبار قادته العسكريين والسياسيين، وتراجع شعبيته، وانهزامه في ملف الصحراء الذي توّجه المغرب بإطلاق "المسيرة الخضراء" وتوقيع الاتفاق الثلاثي التاريخي بين مدريد والرباط ونواكشوط.
رغم أن الملك المعزول دون خوان دي بوبربون كان مقيما في مدريد، إلا أن رياح الحالة السياسية في إسبانيا جرت بما لم يكن يشتهيه (الدون) وآلت الأمور لابنه الذي شاءت الأقدار أن يتولى الحكم في مرحلة دقيقة وحرجة
عودة الملكية وبداية طور الانتقال الديمقراطي
مثل يوم 22 نوفمبر/تشرين الأول 1975 حدثا استثنائيا في التاريخ الراهن لإسبانيا، حيث عادت الملكية البوربونية في شخص الملك السياسي خوان كارلوس الأول[1] إلى مقصورة الحكم عقب وفاة فرانكو، الذي مهد لعودة الحكم الملكي، باختيار خوان خليفة له سنة 1969.
ورغم أن الملك المعزول دون خوان دي بوبربون كان مقيما في مدريد، إلا أن رياح الحالة السياسية في إسبانيا جرت بما لم يكن يشتهيه (الدون) وآلت الأمور لابنه، الذي شاءت الأقدار أن يتولى الحكم في مرحلة دقيقة وحرجة، أدارها بكفاءة واقتدار وسياسة متفطنة لما كانت تعتمل به الحياة السياسية والاجتماعية والتحولات الجذرية في البلاد، وسعى لبناء توافقات واسعة وجدية مع مختلف الفرقاء، ورضي ببقاء الدكتاتور بابلو نابارو رئيسا لحكومة تضم كافة أركان النظام الفرنكاوي، فضلا عن الجيش وأجهزة الأمن التي كانت بيد قادة لهم عقيدة فرانكية قومية متصلبة، ثم كان أن أتيحت له فرصة تعيين رئيس البرلمان الذي كان يثق فيه، إضافة لاقتراحه أسماء وزارية في تشكيلة حكومة نابارو وغيرها من الإجراءات التي تسلل بها إلى مواقع السلطة الحقيقية، ووسع بها طموحاته في التأسيس لمرحلة جديدة لإسبانيا.
ابتسم الحظ للملك وللشعب -من قلب لحظات حالكة وصعوبات جمة- بأن استثمر في بعض التعديلات القانونية ليصير له حق اقتراح اسم واحد من بين 3 أسماء لتشكيل حكومة جديدة عقب اغتيال الجنرال نابارو
تلاقي إرادات التغيير والتجديد من أجل نسق سياسي جديد
ابتسم الحظ للملك وللشعب -من قلب لحظات حالكة وصعوبات جمة- بأن استثمر في بعض التعديلات القانونية ليصير له حق اقتراح اسم واحد من بين 3 أسماء لتشكيل حكومة جديدة[2] عقب اغتيال الجنرال نابارو، فكان أن وقع اختياره على الرجل الاستثنائي والسياسي المخضرم أدلفو سواريز[3] لترؤس الحكومة، والشروع العملي في إنجاز الانتقال الديمقراطي المنشود، وذلك بمعية قادة سياسيين شباب مدوا جسور الثقة مع الملك وراهنوا عليه ووثقوا بسعيه لإخراج إسبانيا من ضيق الاستبداد والتخلف إلى رحابة الديمقراطية والتقدم واللحاق بركب أوروبا، وتسنم زعامة البلدان الناطقة بالإسبانية عبر العالم.
وبتأثر من ثورة القرنفل في البرتغال سنة 1974، والثورة اليونانية في نفس السنة، وبتأثير رجالات الاعتدال والساسة الوطنيين في الملك الشاب آنذاك، وعلى رأسهم أستاذه فرنانديز دي ميراندا الذي ساعده في إعداد وصفة لنظام سياسي مقبول أوروبيا وعالميا، وبسحب الصلاحية التاريخية من الفرانكوية الشائخة، والذي لعب دورا كبيرا في تخفيف حيرة الملك في اختيار الواحد من أصل ثلاثة كانت تقضي قوانين الجنرال فرانكو العمل بها والقسم على تطبيقها، فكان أن تقدم لخلافة الرئيس المنتهية ولايته على رأس البرلمان الإسباني، فعينه الملك رئيسا جديدا للبرلمان، فعمد إلى تقديم 3 أسماء للملك، ضمنهم الأمين العام للحزب الوحيد، الذي أومأ دي ميراندا إلى الملك باختياره رغم كونه أحد رجالات النظام الاستبدادي، ثم كان أن أتيحت له فرصة "تغيير القانون بالقانون" بتعبير المؤرخ محمد العربي المساري[4] فعدل مسطرة إعادة تعيين رئيس (الكورتيس/البرلمان) وكذا طريقة عرض واختيار الأسماء المرشحة لخلافة كارلوس آرياس في رئاسة الحكومة، وغيرها من الإجراءات التي تسلل بها إلى مواقع السلطة التنفيذية عبر بعض رجالات إرادات الإصلاح والتغيير (مانويل فراغا، لانديلينو لابيا، فيرناندو أبريل، غوتيريس ميدايو..) الذين وسع بهم طموحاته في التأسيس لمرحلة جديدة من عمر إسبانيا.
حق للإسبان أن يفخروا بأعظم ثورة سلمية هادئة أنجزوها في القرن العشرين، متوافقين، متكاتفين، أعينهم على المستقبل، وعملتهم الصدق في الممارسة الديمقراطية، والحقيقة في السياسة، وسياسة الحقيقة
مخرجات مونكلوا التاريخية.. مفاخر الأمة الإسبانية:
انتهج سواريز خيار "الوسط السياسي" تفاديا لأي تطرف يجر إلى الوراء، أو تلهف غير ناضج يقفز فوق سننية التاريخ إلى الأمام، وأوجد عبر إطار حزبي وممارسات حكومية صيغة الاعتدال ومصالحة الإسبان مع ذواتهم ورغباتهم وتعدديتهم وملكيتهم، خدمة للثقافة الديمقراطية النامية في البلد وقتئذ، وتأسيسا لنسق سياسي قابل للعيش المشترك بين جميع الفرقاء وبقيادة الملكية.
وجسد توقيع اتفاق (مونكلوا) ميلاد الوفاق الوطني التاريخي من أجل الديمقراطية، والشروع في تنزيل الجهوية الموسعة أو نظام الحكم الذاتي[5] والمصالحة مع أوروبا والعالم اللاتيني، وفتح مجال عودة اللاجئين والمعارضين، وتعزيز ثقافة التعددية السياسية[6] وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وباقي عناوين الانتقال الديمقراطي الذي كان في إسبانيا ثورة بيضاء بلا دماء.
فحق للإسبان أن يفخروا بأعظم ثورة سلمية هادئة أنجزوها في القرن العشرين، متوافقين، متكاتفين، أعينهم على المستقبل، وعملتهم الصدق في الممارسة الديمقراطية، والحقيقة في السياسة، وسياسة الحقيقة.. وحق للقوى السياسية ولقادة أحزاب مرحلة الانتقال الديمقراطي (سانتياغو كاريللو، فيليپي غونزاليس، فيرناندو براغا، أنطونيو كاستيللو، أدلفو سواريز..) الاعتزاز بأنفسهم ورشدهم وإسهاماتهم النوعية سواء من موقع الحكومة أو المعارضة.. وحق لخوان كارلوس أن يجنح للراحة بانتشاء واعتزاز بعدما أرسى قواعد ملكية ديمقراطية إصلاحية دستورية، وكان -إلى جانب آخرين- فارس الانتقال الديمقراطي وقائد الازدهار التنموي، والرجل الذي افتك مسارا جديدا في علاقته مع المغرب، ورتب للانسحاب النهائي للقوات الإسبانية من الصحراء المغربية، ووطد مع الحسن الثاني علاقة تجاوزت البروتوكولات والمراسيم والإجراءات الرسمية، إلى علاقة صداقة متينة.[7]
ويقضي كارلوس أواخر عمره في منفاه الاختياري بالإمارات العربية المتحدة، مؤديا ضريبة الانخراط في الفساد المالي، دون أن يأكل هذا المصير من رصيده التاريخي كملك قاد الانتقال الديمقراطي في بلده، وصالح إسبانيا مع أوروبا، وساهم في الاستقرار السياسي والاجتماعي جنوب المتوسط.
مراجع:
- (المساري) محمد العربي: "إسبانيا الأخرى" تقديم الدكتور حسن أوريد، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2015.
- (الفيلالي) عبد اللطيف: "المغرب والعالم الخارجي" تقديم: هوبير فيردين، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى 2008.
- "دستور إسبانيا" نسخة 1978، تعديلات سنة 2011، نسخة مترجمة إلى العربية، Constituteproject.org.
هوامش:
- [1] من سلالة العائلة المالكة بإسبانيا، وهو حفيد ألفونسو الثالث عشر آخر الملوك الإسبان قبل إلغاء النظام الملكي سنة 1931 وإعلان الجمهورية الثانية، وفي روما كان مولد خوان كارلوس الأول سنة 1938، قضى ردحا من الدهر في إيطاليا، ثم انتقل إلى إسبانيا بعد اختياره خليفة لفرانكو، تمهيدا لإعادته إلى عرش أسلافه، وهو الأمر الذي تم بتاريخ 22 نوفمبر 1975، ومن وقتها، وخوان يزاول مهامه كملك لغاية يونيو 2014، عندما قرر التنازل لصالح ولده فيليب السادس.
- [2] انظر: (المساري) محمد العربي: "إسبانيا الأخرى" تقديم الدكتور حسن أوريد، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2015.
- [3] أبرز قادة الحركة الوطنية الإسبانية، وزير ومدير للإعلام والتلفزيون الإسباني، من مواليد قرية ثيبريروس بإسبانيا سنة 1932، زاول مهنة المحاماة، وتدرج في مراتب المسؤوليات السياسية في طور الحكم الفرانكوي، من قيادة المجلس الجماعي لمدينة (سيغوفيا) سنة 1968، إلى عضوية البرلمان فيما بين 1977 إلى غاية اعتزاله سنة 1991. أهم حدث في مسيرته: ترؤسه حكومة العهد الديمقراطي من 3 يوليو 1976 وإلى غاية مغادرته له يوم 25 فبراير 1981، توفي في العاصمة مدريد سنة 2014.
- [4] "إسبانيا الأخرى" مرجع سابق.
- [5] "دستور إسبانيا" نسخة 1978، تعديلات سنة 2011، نسخة مترجمة إلى العربية، Constituteproject.org.
- [6] الباب التمهيدي، المادة الأولى من دستور إسبانيا، نسخة 2011.
- [7] /انظر: (الفيلالي) عبد اللطيف: "المغرب والعالم الخارجي" تقديم: هوبير فيردين، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى 2008.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.