شعار قسم مدونات

دفاعا عن الوحوش.. هل قرأت كتاب "حيونة الإنسان"؟

غلاف كتاب حيونة الانسان
غلاف كتاب "حيونة الإنسان" (الجزيرة)

تسيطر علي منذ سنين فكرة التحدث بلسان الحيوانات أو الوحوش لإنصافها من التهم التي نلحقها نحن البشر بها حين نصف أفعال بعض البشر بـ"الحيوانية" أو "الوحشية".

وتلح عليَّ فكرة المقارنة بين مصطلحي "الإنسانية" و"الوحشية"، فكنت أرى أنه من الإجحاف بحق الحيوانات أن أصف أفعال بعض البشر بالوحشية، وكنت أظن أني صاحب السبق في طرحي هذا وفي فكرتي إلى أن قرأت "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان، فعرفت أنه قد سبقني إلى ذلك كثر وأني آخر الواصلين.

إن تصورنا للإنسان الذي يجب أن نكونه ليس مستحيل التحقق حتى وهو صادر عن تصور أدبي وفني

حيونة الإنسان

إنني أرى أن عالم القمع المنظم منه والعشوائي الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على "حيونة" الإنسان (أي تحويله إلى حيوان)، (حيونة الإنسان- ممدوح عدوان).

إن تصورنا للإنسان الذي يجب أن نكونه ليس مستحيل التحقق حتى وهو صادر عن تصور أدبي وفني، ولكن هذا التصور يجعلنا حين نرى واقعنا الذي نعيشه نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية، وهي خسائر متراكمة ومستمرة طالما أن عالم القمع والإذلال قائم ومستمر، وستنتهي بنا إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان" أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا، ومن دون أن يعني هذا بالضرورة تغيرا في شكله، إن التغير الأكثر خطورة هو الذي جرى في بنيته الداخلية والعقلية والنفسية.

بين حين وآخر يتنبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان

خسارة فاجعة وجرح نازف

وفي تقديمه لكتابه "دفاعا عن الجنون" يقول ممدوح عدوان "كان لدى الإنسان حلم جميل حول نفسه، وكان يصبو إلى السمو على شرطه الإنساني، ولكن تتالي الأحوال فتح في هذا الحلم جرحا، وبدأ الحلم ينزف ويضمحل، وراح يتخذ -مع ضموره- أشكالا وتسميات، وبين حين وآخر يتنبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة هذه، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان، وحين يقاوم تتخذ مقاومته نوعا من الجنون".

الوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والرضا فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألما

دفاعا عن الوحوش

يستدرك ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" وكأنه يعتذر للحيوانات والوحوش، فيقول: إن اللغة هنا تبدو فقيرة، وحين نضطر إلى استخدام كلمات "وحش" و"وحشي" و"ومتوحش" فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري لكي نظلم الوحوش، فقد دلت الأبحاث والتجارب على أن ما نصفها بالوحشية هي سلوك خاص بالإنسان، لأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادا من بني جنسه ويعذبهم دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس بالرضا التام من فعل ذلك.

فالوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والرضا فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألما، ولا تستنبط الوحوش متعة جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم.

ومن هنا استوحيت عنوانا لمقالي هذا فقلت: دفاعا عن الحيوان، ثم قلت: بل دفاعا عن الوحوش.

المشاهدون يتألمون معنويا من رؤية مشهد التعذيب، يتألمون نفسيا ووجدانيا مثلما تتألم الضحية جسديا، يتألمون و"يعتبرون"

إياكم أن تفعلوا ما يعرضكم للتعذيب

وقد ابتكر الإنسان طرقا شتى ووسائل عدة لإيقاع الأذى بأخيه الإنسان، متفننا في قتله آلاف المرات قبل قتله حقا، فاخترع التعذيب.

البعد الاجتماعي للتعذيب هو "العبرة"، إن المسألة تبدأ بفرض الإرادة وممارسة السلطة على المعذَّب ثم على الآخرين من خلاله، ومن أجل ذلك كانت مشاهد التعذيب تتم أمام جمهور.

يجب أن يصبح المعذَّب "عبرة لمن يعتبر"، أي أن المطلوب هو إرهاب الناس كلهم وإجبارهم على أن يقوموا بأنفسهم باختزال حياتهم ونواياهم وتطلعاتهم غير المرغوب فيها، لكي لا يواجهوا المصير ذاته.

فالمشاهدون يتألمون معنويا من رؤية مشهد التعذيب، يتألمون نفسيا ووجدانيا مثلما يتألم الضحية جسديا، يتألمون و"يعتبرون"، إن رؤية العملية التعذيبية بتفاصيلها درس واضح: إياكم أن تصلوا إلى هذا المصير أو أن تفعلوا ما يجعلكم تواجهونه.

إن التعذيب -بالتدريج- تسبب في حدوث تغييرات في المعذِّب ذاته إضافة إلى التغييرات التي تحدث للمعذَّب، فقد كان القضاء على الخصم يتم بالقتل، ولكن من خلال التعذيب ومن خلال التخويف، بمعنى تحذير الناس من أن يفعلوا ما يعرضهم للتعذيب، يتم قتل الخصم والآخرين من الداخل من دون قتله أو قتلهم جسديا.

من أصول لعبة التعذيب أن يتقن الجلاد عمله فلا يتسبب في موت الضحية، الموت الداخلي هو المطلوب وليس الموت الخارجي والجسدي

لا تقتله.. عذبه ليكون ذليلا

يريد المضطهِد أن يقمع شيئا محددا في المضطهَد، هو جوهر حياته أو أحد أهم المستلزمات لحياته، لأنه يريده نصف حي، النصف الآخر "الزائد" هو الإرادة أو الحرية والكرامة، وهذه فوائض في المضطهَد لا يريدها المضطهِد.

وهذا النصف إن لم يمت فإن الاضطهاد والاستغلال لا يمكن أن يستمرا، النصف الآخر هو التلبية الطوعية لعمل السخرة (الذي يمتد من العمل اليدوي إلى تحويله إلى جندي مسلح لحماية عدوه أو خوض الحروب التي يدفعه إليها هذا العدو، وكثيرا ما تكون ضد أبناء قومه أو ضد من يشبهونهم).

وإن من أصول لعبة التعذيب أن يتقن الجلاد عمله فلا يتسبب في موت الضحية، الموت الداخلي هو المطلوب وليس الموت الخارجي والجسدي، لأن الذين يفرضون التعذيب يريدون أن يوصلوا الضحية إلى أقصى حالات الضعف والألم ومن ثم التذلل، المطلوب هو الإذلال حتى الدرجة القصوى وإيصال المعذَّب إلى حالة مزرية خالية من الكبرياء والقيمة والاحترام.

الجلاد يرى (الضحية- الخصم) أذى للبشر لأنه عدو للبشر أو أنه من غير البشر، بل إن الجلادين يحسون بأنهم يخلصون البشرية من أنصاف البشر الضارين

صناعة الجلاد

إن منفذ التعذيب بعد شحنه بفكر معين وعواطف وأحقاد خاصة يشعر بأنه يؤدي خدمة خاصة للسلطة التي يحترمها أو يخافها أو يهابها أو للأيديولوجيا التي يؤمن بها.

وهذه السلطة -هنا- هي الحكومة أو الشعب أو الحزب أو الطائفة أو الجماعة (الإثنية)، الخصم "الحر" يجب أن يصنف "غير إنساني"، وغير الإنساني يصبح غير إنسان، وبهذا يمكن تدميره تدميرا تاما دون أي احتمال لشعور بالذنب.

والجلاد يرى (الضحية- الخصم) أذى للبشر لأنه عدو للبشر أو أنه من غير البشر، بل إن الجلادين يحسون بأنهم يخلصون البشرية من أنصاف البشر الضارين (فالنصف الآخر في كل منهم شرير وحقير وغير إنساني ومؤذٍ للبشرية)، أو هم يروضون أنصاف البشر هؤلاء كما يروضون الجياد والبغال والحمير، لكي يصبحوا صالحين لخدمة "البشر الأسوياء".

وتزداد هذه النظرة عمقا واتساعا، فلا يكتفي الجلاد -والجلاد هنا ليس فقط ذلك الذي يمارس التعذيب بل هو الذي يقوده ويوجهه- بأن يرى الخصم حيوانا، بل يرى الطرف الآخر كله (القبيلة الأخرى كلها، الحزب الآخر، القومية الأخرى) حيوانات، ومن هذه النظرة الفوقية الاحتقارية للآخرين تتولد نظرية الامتياز العرقي.

نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات فينا شيء

لم نمت.. لكن ماتت فينا أشياء كثيرة

"تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئا عن التعود، حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق، أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس، ومن ثم لم تعد تنبه الجملة العصبية.

والأمر ذاته في السمع حين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك، لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم، الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت، نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات فينا شيء.

  • ملحوظة: إن مادة هذا المقال مستفيدة بأغلبها من كتاب "حيونة الإنسان" لمؤلفه ممدوح عدوان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.