شعار قسم مدونات

التوحد وأنا.. وخانتني العبرة (5)

الكاتب: مر أمامي شريط حياته وحياتي منذ أن وقع في داخلي أنه طفل "متوحد" مختلف قبل 6 سنوات (بيكسلز)

في إحدى الأمسيات بعد يوم طويل جلست لأشاهد إحدى الوثائقيات على منصة نتفليكس، "Unwell" سلسلة وثائقية عن الصحة والمرض، والحلقة الأولى كانت عن العلاج بالزيوت العطرية.

يبدأ أحد المشاهد بصورة أم تجلس خلف المقود في طريقها لزيارة أحد المعالجين بالزيوت العطرية، تتحدث عن طفلتيها الجالستين بالخلف وعن أكبرهما المصابة بالتوحد. عند الوصول تفتح الأم باب السيارة لتخرج طفلتها فإذا بها تنهار وتأخد في ضرب رأسها والقيام بحركات غريبة يعرفها كل من يعرف عالم التوحد، تنم عن التوتر الشديد وصعوبة في اللحظات الانتقالية. بخبرتها أغلقت الأم باب السيارة وتركتها قليلا بداخلها، ثم عادت تسألها إن كانت جاهزة أم لا؟

كان داود يشاهد إلى جانبي، وإذ به يسألني لماذا تتصرف البنت هكذا؟

أجبته بعفوية: لديها توحد.

باغتني بسؤال نزل علي كالصاعقة: بابا وماذا يعني توحد؟

اعتدلت في جلستي، لم أكن أتوقع السؤال، حاولت التفكير في جواب مناسب لكنني لم أتمالك نفسي، ودون إرادة انهمرت الدموع على وجنتي، فإذا بي أخفي وجهي بين كفي.

مر أمامي شريط حياته وحياتي منذ أن وقع في داخلي أنه طفل مختلف قبل 6 سنوات (راجع المقال الأول "التوحد وأنا (1).. هكذا اكتشفت علاماته المبكّرة لدى طفلي").

أشكر الله على كم العطايا التي منحني إياها بشفاء قرة عيني بعد سنوات من العلاج، لم تخرج العبارات لكن عبراتي كانت تكتب شكري له سبحانه

أنت يا داود من كان توحدك سببا ليغير حياتي وحياتك وحياة كثير من أقرانك للأبد تسألني الآن ماذا يعني توحد؟

في غمرة دموعي حاولت أن أتماسك وأن أرتب العبارات لإيجاد جواب مناسب.

هل أخبره أن التوحد هو ما كنت أنت عليه طول عمرك السابق؟

هل أخبره أن التوحد هو أسوأ وحش يمكنه أن يبتلع أجمل فترات حياة الطفل فيحولها لكابوس؟ والأسوأ من الكابوس هو إقناع كل من حولك لك أنه لا استفاقة منه.

خانتني الكلمات كما خانتني العبرة فلم أستطع غير قول "مرض… التوحد مرض".

أشكر الله على كم العطايا التي منحني إياها بشفاء قرة عيني بعد سنوات من العلاج، لم تخرج العبارات لكن عبراتي كانت تكتب شكري له سبحانه.

3 سنوات لم أعد فيها للتدوين العام واكتفيت بالتدوين الخاص والانكفاء على فكرة مشروعي "وطن عربي خال من التوحد".

كنت أسابق فيها الوقت أطمع في أن أنتشل كل الأطفال العالقين بتلك الطريق كما سهل الله لي من قبل انتشال صغيري.

حينما بدأت وجدت مئات الأهالي بل الآلاف لا يعرفون أول الطريق ولا أصل الحكاية، يجلسون على قارعة اليأس.. يبكون، تذكرت نفسي عندما بدأت رحلتي مع التوحد، وآلمني قلبي عليهم.

يد واحدة تمتد إليك ساعة يأسك، خير من كل الأيدي ساعة فرحك، تلك العبارة كانت تحفزني لأجلس إليهم وأحكي لهم.

بدأت ببعض الأهالي واستهدفت رفع الوعي الفردي على اختلاف مستويات الوعي لديهم عن إمكانية علاج التوحد، وبدأ العدد في ازدياد، فنبتت فكرة تكوين وعي جمعي ومجتمعي لقطاع أكبر من المجتمع.

بدأت بتحويل الفكرة لواقع أنشأت مجموعة دعم خاصة للأهالي الراغبين في المعرفة أكثر بالتوازي مع صفحة عامة عبر فيسبوك وإنستغرام أنشر فيها الأمل وجديد ما وصل له العلم في أبحاث التوحد.

اليوم بعد سنوات 3 مضت أشرفت فيها بصورة مباشرة على عشرات الحالات ممن تحسن أصحابها، بعضهم تخلص بالفعل من التوحد بشكل كامل وسقط عنه تشخيص التوحد تماما

نشرت سلسلة مصورة تحاول تبسيط وشرح بعض المفاهيم مثل:

  • هل يمكننا حقا علاج التوحد؟
  • هل يمكن لطفلي أن يتحسن؟
  • ما هو بروتوكول آندي كاتلر؟
  • هل التوحد هو تسمم بالزئبق؟
  • ما علاقة المعدة وبكتيريا الأمعاء بكل ذلك؟

في البداية كانت المجموعة تسكنها مشاعر الأمل المقترنة بالتحفظ وأحيانا كثيرة الشك، وعندما بدأت التطورات تلقي بظلالها على بعض الأهالي أضاءت لياليهم، مما أضاء قنديل الأمل لدى المترددين منهم. مشاركة تطورات داود وأقرانه أضحت وقود يشحذ همة المتعبين من صعوبة المواصلة أو وعورة الطريق وظلمته ويحفزهم على الاستمرار.

كل طفل مصاب بالتوحد في المجموعة هو طفلنا جميعا، لا مجازا، عند كل تحسن مهما كان صغيرا مثل البدء باستخدام المرحاض بشكل ذاتي يصبح إنجازا لنا جميعا، الكل يدعو وكأن الطفل طفله.

مشاعر الحب والأمل والعلاقات بين الأهالي ازدادت وأضحت المجموعة كمجتمع دعم مصغر وبيئة داعمة في ظل غياب أشكال الدعم للأهالي المتعبين في عالمنا العربي.

كنت أستمع باستمرار لمعاناة الأهالي وحرجهم من قبول دعوة عشاء عن امتناعهم عن كل أشكال الزيارات، ورفضهم لأي ضيف طارئ، واعتبارهم التسوق شكلا من أشكال الجحيم. هذا الشبح وضع دون مبالغة مصير علاقات أسرية على المحك.

اليوم بعد سنوات 3 مضت أشرفت فيها بصورة مباشرة على عشرات الحالات ممن تحسن أصحابها، بعضهم تخلص بالفعل من التوحد بشكل كامل وسقط عنه تشخيص التوحد تماما.

أصبح لحياة عشرات الأهالي "معنى"، أصبحت حياتهم "تطاق" ويمكن المضي بها بعد أن توقفت عقارب الزمن لسنوات عند تشخيص طفلهم بالتوحد.

حاول الإحباط أن يتسلل إلي مرارا خلال الطريق وفكرت رغم إرادتي الصلبة في بعض المرات بالتوقف، لكن إرادة الأهالي الذين انضموا تباعا لهذه الطريق كانت تشحذ همتي وتطرد عني غبار اليأس الذي يتسلل ولو مصادفة إلى قلبي

أتلقى بشكل شبه يومي رسائل من الأهالي:

  • اليوم خرجنا للحديقة دون معيقات.
  • لم أجر وراء طفلي كالمجنون في الشوارع.
  • صرنا نستقبل الزوار دون حرج.. استعدنا حياتنا الاجتماعية.
  • عدنا لحضور المناسبات الاجتماعية بعد إضراب دام طويلا.

حاول الإحباط أن يتسلل إليّ مرارا خلال الطريق، وفكرت رغم إرادتي الصلبة في بعض المرات بالتوقف، لكن إرادة الأهالي الذين انضموا تباعا لهذه الطريق وأخذوا على عاتقهم ما أخذت على عاتقي في توعية غيرهم كانت تشحذ همتي وتطرد عني غبار اليأس الذي يتسلل ولو مصادفة إلى قلبي.

شكل الأهالي المتسلحون بالإرادة والمعرفة كتلة حرجة في الصبر لا يمكن كسرها، لم تكن اليد الواحدة لتصفق يوما.

الآن ماذا بعد؟

لن يتوقف وطن عربي خال من التوحد إلا عندما نصل لحالات عددها صفر، وقتها سأكون سعيدا بإعلان نهاية مهمتي والتفرغ لما أحلم به، إنشاء أول مجتمع عربي لـ Biohacking and anti-aging.

فأملي أن أتوقف يوما ما عن الحديث عن التوحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.