شعار قسم مدونات

رويدا يا شمس القرضاوي

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي (رويترز)

رويدا رويدا كانت تلك الشمس الوهاجة العظيمة تنسحب من آفاق عصرنا اليوم، لتحين في ظهيرة الاثنين 2022/9/26 ساعة الفراق النهائي، ولكن أشعتها المتلألئة خالدة على عناوين من المؤلفات التي تصل 200 كتاب، وتنعكس بلمعان على تفاصيل قرن هجري من المجد والعطاء لواه الشيخ يوسف القرضاوي على هامته الكريمة وأقبل إلى دار الجزاء.

وكن رجلا إن أتوا بعده     يقولون مر وهذا الأثر

يطأ ذلك الرمز النادر العالم الأخروي اليوم وفي آذان قطاعات واسعة من الدنيا صداه، وعلى الألسنة وملء الأحاديث ما أنجزه من الصيت العظيم في عصر من أقسى عصور الأمة وأصعبها وطأة، عانت فيها شعوب الحضارة الإسلامية ما يؤرقها، وشاء ربك أن يقيض له جمعا من الأفذاذ الذين حملوا همّ الواقع وظلوا في غمرة المضمار، ومن بين هؤلاء كان الشيخ يوسف القرضاوي بهي الحضور رائع الدور يدفع لمطابع المؤلفات العنوان تلو الآخر، ويبث صوته، ويزيح غلواء العجاج والضباب مرشدا ومنوّرا، كل ذلك بأداء العالم ورؤية المفكر ولوعة الداعية الأديب وإسهام إمام من القدوات الرفيعة.

يحل في القبر جسد ذو فؤاد تقطن به معارف الإسلام

تجاورها الرقائق والإيمانيات

على امتداد قرون الإسلام يشكل مشاهير العلماء صفا منتظم الحلقات تقف به من كل حقبة كوكبة تلمع أسماء شخصياتها بجلاء داخل هذا الصف، وتتنوع هذه الأسماء منذ أيام الصحابة وإلى اليوم فتطالع ضمنها سعيد بن جبير والسفيانييْن والبخاري وسادة المذاهب مرورا بابن حجر والسيوطي، لتواجهك أول ما تصل إلى العصر الحديث جبة الشيخ القرضاوي تتحرك أطرافها بفرائد العلم ونسائم الأدب، وتستقر عينك على "طربوشه" الأزهري نبراسا متلألأ يشق به الغياهب ويحدو به لشعوب الأمة في الملمات، إذ كان ذا حضور مفصلي في المرحلة علما وعملا، فقضايا الإسلام العلمية والعملية تشيّع الأمة نسخة منها اليوم متكاملة بين جنبي يوسف القرضاوي يأوي بها إلى جدثه المهيب شاهدة على مجده ووفائه.

   يا رحمة الله تقفّيْ أثَرَه           لا تعدلي ميمنة أو ميسرة
ورافقيه في الضريح النيِّرهْ      أرجاؤه من يعمل الخير يرَهْ

سيحل في القبر جسد ذو فؤاد تقطن به معارف الإسلام، تجاورها الرقائق والإيمانيات، جسد لم يعش أيامه على الكوكب الأرضي في استجمام ومكث للراحة، كان في البيت والمكتب مع القراطيس والصحائف المترعة من علمه وفي الخارج على المنابر صدوحا يراكم البناء، ظل أنموذجا للعطاء وشاهدا لا كالشهود على حقبة لأمته، كان إمامها المعمر البارز الذي يغادر اليوم، ومعلومة هذا الرحيل لا تحلو في الفم لمحبيه على امتداد البسيطة كما كانت تحلو القصيدة النونية لدى إمامها الشاعر يوسف إذ قال:

نونية والنون تحلو في فمي      أبدا فكدت يقال لي ذو النون

نعم، تتذكرك أمتك مع ورثة الأنبياء وخط الأنبياء الذي يضم ذا النون وجميع رسل الهدى.

يوم أيْوَم على وزن "ليلة ليلاء من نوفمبر" تلك التي خلدها إمام الأدب والشعر الراحل، فقد فُزعت الأمة بأن يممت وجهك إلى هناك وبقي المشهد يذرف دمعا سخينا يندب الإمام.

العلم والعمل والأدب، وفقه الحلال والحرام، والصحوة، والتجديد، والتيسير والتسهيل، والبذل والإنجاز، ودفع الضريبة غاليا في سبيل النهج، والأبوة العظيمة لحضارة الإسلام في عصرنا اليوم كلها يحملها الناس على الأعناق لحظة يرتفع النعش ملوّحا بجثمان الإمام الفريد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.