شعار قسم مدونات

قانون تونس الانتخابي.. تعزيز سلطة الفرد وإيقاظ فتنة المال

الرئيس التونسي قيس سعيّد (الجزيرة)

أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد مساء الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2022، قانونا انتخابيا جديدا، لتعويض القانون الانتخابي الذي وُضع بعد الثورة التونسية سنة 2011 وانتخب به. لا يمكن تسمية القانون الجديد بأنه تعديلي -بالرغم من تنصيصه على ذلك- بل هو قانون راديكالي، غيّر جذريا من مفهوم الانتخابات والاقتراع في تونس.

ونظرا لطول القانون وتشعبه، فسأتناول الموضوع من جهتين: كيف يعزز هذا القانون من سلطة قيس سعيّد على حساب السلطة التشريعية؟ وكيف يمكن لهذا القانون أن يغذي الفتنة العشائرية والمال السياسي؟

لكن قبل الخوض في المسألتين، يُلاحظ أن هذا القانون تم نشره في الرائد الرسمي (الصحيفة الرسمية)، دون أن يتم الإعلان عن الجهة التي استشارها الرئيس أو تناقش معها (تم الإعلان عن استشارة هيئة الانتخابات طبق القانون لكن قبل ساعات فقط من إصداره بالرائد الرسميّ، وهو ما يجعل الاستشارة شكليّة لا غير) أو على أي أساس علمي أو قانوني تمت كتابة فصوله.

وهذا ما دأب عليه قيس سعيد منذ تفرده بالسلطة في 25 يوليو/تموز 2022، كما تم نشره قبل 3 أشهر فقط من موعد الانتخابات التشريعية التي حددها قيس سعيد، وهو ما يعدّ تشكيلا للقانون على القياس ومحاصرة لهامش التحرّك ويحد المنافسة.

أما الملاحظة الثانية فهي تعدد الشروط المرتبطة باستخراج وثائق إدارية دون تقديم حلول رقمية في الغرض، مما يكرس البيروقراطية في دولة تعاني من بطء استجابة الإدارة وتخلفها عن الطفرة الرقمية، مما يمكن أن يحد المنافسة بحرمان بعض المترشحين من المشاركة بعلة تعطل استخراج الوثائق.

وأخيرا إلغاء مبدأ التناصف في الترشح بين المرأة والرجل، وتهميش الشباب، واقتصار دورهم ودور النساء على التوقيع على التزكيات لترشيح النواب.

نصّ القانون الجديد على فكرة لطالما نادى بها قيس سعيّد، وهي إمكانية سحب الوكالة من النائب. فقد أشار القانون الجديد إلى أنه "يمكن سحب الوكالة من النائب في دائرته الانتخابية في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابية".

تعزيز سلطة الرئيس وتهميش السلطة التشريعية والممارسة الحزبية

يتميز القانون الانتخابي الجديد الذي وضعه قيس سعيّد بإلغاء نظام الاقتراع على القوائم وتعويضه بالاقتراع على الأشخاص، كما عوّض القانون طريقة التمثيل النسبي بالأغلبية المطلقة للأصوات.

تم إلغاء نظام الاقتراع على الأفراد في العديد من الديمقراطيات العريقة. وحتى تلك التي حافظت عليه، كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فإنها حافظت على تمثيل الأفراد للأحزاب. إلا أن القانون الانتخابي الجديد في تونس ينص على انتخاب الأفراد بأسمائهم مما يهمش التمثيل الحزبي.

يذكر في هذا الصدد أن قيس سعيد لطالما صرّح قبل وصوله للرئاسة أنه ضد وجود الأحزاب في المشهد السياسي، وأنه سيعمل على ذلك في حال وصوله للسلطة (حوار قيس سعيد لصحيفة الشارع المغاربي قبل انتخابات 2019). ورغم أنه صرح في اجتماع الوزراء للمصادقة على القانون أنه لن يتم إقصاء أحد، فإن تعقيدات القانون تقصي ضمنيا الأحزاب، وليس قانونيا. كما أن قيس سعيد نفسه صرح سابقا أنه سيقوم بتطهير من سماهم: " كل من عبث بمقدرات الدولة".

من جهة أخرى، ألغى قيس سعيد نظام التقسيم بحسب الولايات (المحافظات) على دورة واحدة، وجعل الاقتراع على دورتين والترشح بمعدل مقعد عن كل معتمدية (مدينة أو قرية) أو مجموعة صغيرة من المعتمديات. هذا التقسيم سيفرز حتما مجلسا مشكلا من نواب لا تجمعهم فكرة أو أيديولوجيا أو ومبدأ سياسي، بل نزعة جهوية ومحلية لكل فرد لا يمكن تجميعهم. وبهذا الشكل فإن كل نائب سيعمل (نظريا) على الدفاع عن مدينته، وليس على المشاريع الوطنية. فالأحزاب والائتلافات والكتل تتنافس عادة على برامج وطنية (ناجحة كانت أم فاشلة)، إلا أن هذه الفسيفساء ستجعل نواب البرلمان يتناقشون على المشاريع المحلية، مما يجعل تصورات المشاريع الوطنية تنحصر عند السلطة التنفيذية.

فلطالما عبّر التونسيون عن سخطهم من تفكك المجلس النيابي السابق بين 5 أو 6 كتل حزبية كبرى تتصارع بينها حول المشاريع الوطنية، مما رذل صورة البرلمان لدى الذهن التونسي، وأضعف نسبيا من قوة السلطة التشريعية. إلا أن الفسيفساء التي سيفرزها القانون الانتخابي الجديد ستزيد من تفتت البرلمان وضعفه، مما سيؤدي إلى تهميشه لصالح السلطة التنفيذية.

أخيرا فقد نص القانون الجديد على فكرة لطالما نادى بها قيس سعيد، وهي إمكانية سحب الوكالة من النائب. فقد أشار القانون الجديد إلى أنه "يمكن سحب الوكالة من النائب في دائرته الانتخابية في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابية، أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدم به عند الترشح". هذا الفصل سيجعل النائب عرضة للضغط والتهديد، عكس رئيس الجمهورية الذي لا يمكن سحب الوكالة منه ولا محاسبته أمام أي سلطة بحسب الدستور الجديد.

لم يكن القانون الانتخابي السابق مثاليا، وقد تعرّض للعديد من الانتقادات لإفرازه مشهدا برلمانيا مشتتا، وجعل من العديد ممن تطاردهم مخالفات نوابا، إلا أن هذا القانون لن يصلح الأمر، بل سيزيده تعاسة وتشتتا.

تغذية الصراعات القبلية والمال السياسي

كما أشرنا سابقا، فإن هذا القانون يعزز الانتخاب بحسب الأفراد في دوائر ضيقة. أي أن المترشح لن يمثل جهته (الولاية) بل مدينته (أو مجموعة صغيرة من المدن)، وبالتالي فإن الاختيار لن يكون بحسب التوجه الفكري أو السياسي أو الكفاءة، بل سيكون الاختيار بحسب معرفة الناخب بالمترشح شخصيا، أو أن الاختيار سيكون من المؤثرين سواء من وسائل التواصل أو الإعلام (مهما كان مستواهم) أو أصحاب النفوذ المالي والاجتماعي بالجهة، أو بحسب الانتماء القبلي والعائلي والجهوي في بعض المناطق خصوصا الداخليّة أو الريفيّة منها.

أي أن الاختيار سيكون بحسب القرابة الدموية أو بحسب المصلحة أو بحسب من سيدفع أكثر، وذلك بعد أكثر من 60 سنة من محاربة ما يعرف بالعروشية (التعصب للقبيلة)، ومحاولة تأسيس دولة مدنية تقوم على المواطنة، بكل هنات هذا التأسيس. كما أن كل مترشح يجب أن يجمع على الأقل 400 تزكية نصفها من النساء وربعها من الشباب، وبالتالي فإن هذا القانون سيوقظ القبلية والزبونية، وسيكون سببا في جعل المال السياسي لاعبا بارزا في الانتخابات، مع ازدهار تجارة التزكيات.

كما ألغى القانون الجديد التمويل العمومي، مما يفتح الباب على مصراعيه على التمويل غير المشروع والمال السياسي القذر للعب الدور الحاسم في الترشح والدعاية الانتخابية. كما أن قانون "سحب الوكالة" المذكور أعلاه، سيجعل من النائب عرضة لابتزاز المال السياسي الذي يمكنه شراء الأصوات المخولة بسحب الوكالة منه.

لم يكن القانون الانتخابي السابق مثاليا، وقد تعرض للعديد من الانتقادات لإفرازه مشهدا برلمانيا مشتتا، وجعل من العديد ممن تطاردهم مخالفات نوابا، إلا أن هذا القانون لن يصلح الأمر، بل سيزيده تعاسة وتشتتا. إذ لا توجد طريقة فضلى للانتخابات، بل اقتراع يتلاءم مع الحاجات والواقع والثقافة.. وهو ما يلوح بشبح الانقسام وتنشيط الصراعات بعد إثارة النعرات الجهويّة وعصبيّة الانتماء الجغرافي أو القبلي أو العائلي، بما سيجعل الانتخابات منافسة بين الجهات والمعتمديّات على إيصال "ممثّلها" للبرلمان، أكثر منها منافسة على البرامج الوطنية وانتخاب الأفضل فعلا للجهة وللبلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.