شعار قسم مدونات

الخانجي الكتبي الذي أنقذ تراث الأمة (2)

الكاتب: الوراق العراقي قاسم الرجب شاهد كثيرا من العلماء بمكتبة الخانجي (مواقع التواصل)

أسلفنا في الجزء الأول من هذا المقال أن الوراق العراقي قاسم الرجب شاهد كثيرا من العلماء في مكتبة الخانجي ومنهم المحدث المغربي أحمد بن الصديق الغماري (1320/1380هـ – 1960/ 1902م) كما أسلفنا ثناء المحدث الكوثري على جود الخانجي بإعارته الكتب الثمينة والمخطوطات النفيسة للعلماء.

وحين نتصفح كتب الغماري المغرم بالكتب نجد أنه تفيأ بالفعل ظلال مكتبة الخانجي مع آخرين. ففي كتابه "البحر العميق في مرويات ابن الصديق" يحكي الغماري قصة طريفة وذات دلالة عميقة فيما نحن بصدده عن شيخه العلامة أحمد رافع الطهطاوي (ت 1355هـ) الذي كان منهمكا في تأليف كتابه الهام "المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد".

ففي إحدى زيارات الغماري لشيخه الطهطاوي تذاكرا حول تصحيح "ثبت الأمير" الكبير (ت 1232هـ) ـ المعروف بـ "سد الأرب من علوم الإسناد والأدب" الذي تعود له أغلب الإجازات الحديثية، فذكر المغربي لشيخه المصري كتاب "المنح البادية" للفاسي (ت 1134هـ) ودله عليه مبينا له أهميته في تصحيح الثبت المذكور.

جود متواصل

أوصى الشيخ الطهطاوي تلميذه وصاحبه الغماري على الكتاب، يقول الغماري: "وقد بحثت عنه في القاهرة فلم أجده، ثم طلب مني أن أستنسخه له من المغرب، فلما خرجت من عنده مررت في طريقي بمنزل السيد محمد أمين الخانجي الكتبي لزيارته، فوجدت أمامه كتبا منها "المنح البادية" المذكور، وعليها زوائد بخط العلامة محمد بن عبد القادر بن الأمين، فطالبته في بيعها وعرفته القصة، فقال: أما بيعها الآن فغير ممكن لأنه سبق مني عرضها على بعض مكاتب أميركا، فلا أخرجها من يدي حتى يأتي الجواب بالأخذ أو الرفض، ولكن خذها للسيد أحمد رافع ينتفع بها ريثما يأتي الجواب، فأخذتها إليه وبقيت عنده نحو 4 أشهر إلى أن جاء عليها الطلب". "البحر العميق" ج1، ص 223.

وكان الطهطاوي إذا اشتاق إلى تلميذه الغماري ذهب إلى هذه المكتبة مجمع العلماء، كما يقول الغماري في ذكرياته عن شيخه "جاء مرة إلى مكتبة الخانجي يسأل عني وعن عنوان منزلي فوصفه له الخانجي فلما خرج قاصدا المنزل رآني قادما في شارع عبد العزيز فنزل أيضا وأرسل العربة خلفي والمسافة قريبة جدا" وكان الطهطاوي الحنفي برجوازيا أنيقا ومدخنا شرها، ويهش لهذا المغربي وينشرح صدره للقياه، ويزول ما به من الضيق لشغفهما معا بالمذاكرة خصوصا في الفهارس والأسانيد. "البحر العميق" ج 1، ص 229.

ممن عرف قيمة الخانجي وجهاده العلمي وبلاءه الحضاري واستفاد منه وروى نتفا من نوادر أخباره شيخ العربية أبو فهر محمود محمد شاكر

تكوين العلماء

وممن عرف قيمة الخانجي وجهاده العلمي وبلاءه الحضاري، واستفاد منه وروى نتفا من نوادر أخباره شيخ العربية أبو فهر محمود محمد شاكر الذي قال في كلمته "ذكريات مع محبي المخطوطات": "نشأت من صغرى في الحادية عشرة والثانية عشرة، على يد رجل كان خبيرا بالكتب وهو أمين أفندي الخانجي، صحبته طويلا ولكنه لم يستطع لا هو ولا من سألتهم فيما بعد، لم يستطع أحد منهم أن يعدني لأن أكون من الرجال العاملين في ميدان المخطوطات العربية، لأن هذا الميدان محتاج إلى صفات معينة وأنا لا أملك من هذه الصفات شيئا".

وقد روى شاكر عن الخانجي سبب اشتغاله بالكتب والمخطوطات وكيف ساقه القدر إلى هذه المهنة الحضارية النبيلة، فيقول "حدثني أنه مِن حَي بحَلَب، وكان قد شَدا شيئا من العلم، قليلا جدا من العلم. وكانت له رغبة في أن يكون عالما، ولكنه كان صغيرا جدا، وعلى قدر بسيط جدا من المعرفة؛ ففي تجواله في المنطقة التي يسكنها رأى النساء يوقدن المواقد بأوراق الكتب، بل ببعض الكتب المجلدة.

وفجأة استيقظت نفسه، فأراد منعهم من أن يفعلوا ذلك، فاستحطب لهم حطبا يوقدون به مواقدهم، وأخذ منهم هذه الأوراق أو هذه الكتب التي كان بعضها مجلدا، واستمر على هذا دهرا، وإذا عاد إلى بيته بهذه الأوراق كان يقرؤها، وهو لا يستطيع أن يفك رموزها، لكنه بالإصرار وبالحب وبالجذوة التي تتوهج في قلبه ظل يزداد حرصا على هذه الأشياء ويجمعها".

ويكمل شاكر القصة الملحمية للخانجي فيقول إنه: "بعد أن شبّ عن الطوق، رأى نفسه مغرما بحيازة هذه المخطوطات وبقراءتها دون أن يكون قاصدا للعلم، وإنما هي محبة خالصة لهذا الذي يقرؤه. فانتهى به الأمر بعد ذلك إلى أن أصبح أخبر الناس بالمخطوطات. عندئذ قرر أن يكون كُتْبيا أو ورَّاقًا. وأنا أشهدكم أن الجيل الذي نشأت فيه، قد اعتمد اعتمادا كاملا في كل فن على ما نشره أمين أفندي الخانجي، كل الكتب القديمة التي نشرها أصول لا يَستغني عنها طالب علم. فكانت صناعته في البحث عن المخطوطات، هي أن يأخذها وينشرها".

العلم أولا

ورغم شهرة الخانجي التجارية وتعامله مع كبار تجار الكتب والمخطوطات في الشرق والغرب فإن خدمة العلم وصيانة التراث كانتا دافعه الأول، كما يقول شاكر: "وفي ذلك الوقت كانت ثروته لا تحتمل أن ينفق على طباعة هذه الكتب، فكان كلما طبع بضعة كتب أفلس. ثم تردد ذاهبا إلى تركيا، إلى أن جاء الى مصر. وبقيت أنا مع أمين أفندى الخانجى في جو أشعر أن هناك ضوءا في قلب هذا الرجل يضئ لي الطريق، لا طريق المخطوطات: بل أضاء لي طريق العلم"، "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" ج2، ص 1229.

ويؤكد إخلاصه للعلم أيضا ما قاله المحقق الكبير عبد السلام هارون الذي عرف القارئ العربي كتبه المتقنة، فقد شهد للخانجي بالإخلاص والتضحية، وعنه يقول: "وقد رأيت هذا الرجل في صباي وعرفت فيه الإخلاص للعلم وحده، إذ لم يكن المال عنده إلا في المرتبة الثانية، كما لمست فيه الإخلاص في نشر التراث العربي، لا يكاد يعترف بغيره" كما في كتابه "التراث العربي" ص 56.

كان الخانجي رجلا برا نبيل النفس، فوجدت من عطفه وكرمه، ومن تأييده وحثه، ما أعانني على أن أتزود من العلم ما شاء الله أن أتزود، لم يكن عالما لكنه كان يجمع للعلماء أصول علمهم – محمود شاكر

تراث عائلي

وقد استطرد شاكر، في حديثه بعض قصصه وتجاربه مع الخانجي، في العثور على "طبقات فحول الشعراء"، ونسخه وتحقيقه فيما بعد، وهو حديث عاطفي يدل على نبل أبي فهر ووفائه لأرباب المنن عليه في العلم والتحصيل، يقول "عرفته في أول أيامي طالبا للعلم، كان رجلا برا نبيل النفس، فوجدت من عطفه وكرمه، ومن تأييده وحثه، ما أعانني على أن أتزود من العلم ما شاء الله أن أتزود، لم يكن عالما لكنه كان يجمع للعلماء أصول علمهم، وينشرها بين أيديهم، ويغريهم بالحرص عليها، فقلَّ أن تجد عالما أو أديبا في زمنه لم يكن لهذا الرجل النحيف الضئيل الخافت فضل عليه، يذكره الذاكر محسنا في ذكره، وينساه الناسي مسيئا في نسيانه، ذلك هو أمين الخانجي الكتبي الذي أحب الكتاب العربي كأنه كتاب أمه وأبيه". (مقدمة تحقيق طبقات فحول الشعراء ص 9).

ولم يكن تلميذ شاكر المحقق محمود محمد الطناحي دون شيخه في الوفاء للخانجي وتقدير جهوده، فقد عده في "مرحلة الناشرين النابهين وهم طبقة من عظماء الرجال، جاهدوا في سبيل نشر التراث جهاداً صادقاً"، وذكر أن "أهم ما يميز منشورات هذه الطبقة: الحرص على ذكر مخطوطات الكتاب ووصفها؛ إلا أنها لم تُعن بالفهارس الفنية لما تنشره، إلا ما نراه من بعض مطبوعات الخانجي ومحب الدين الخطيب"، (مقالات الطناحي 2/663).

كما نقل الطناحي في "مدخل إلى نشر التراث العربي" عن الزركلي أن مكتبة الخانجي في عهد مؤسسها نشرت حوالي 400 كتاب من الأمهات عدَّدَ أهمها، ونقل أيضا إشادة محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية بدور الخانجي في إذاعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ونشرها وإحيائها، وهذا دليل سعة صدر هذا الحلبي والعظمة الرسالية التي تحلى بها، وقد اتفق على الإشادة بأدواره العظيمة رمز السلفية الإصلاحية ومحيي كتب ابن تيمية والشيخ الكوثري الحنفي الماتريدي المناوئ الشرس للسلفية ومدرسة المنار.

دور لا غنى عنه

كان الخانجي بهذه الجهود الجبارة ركيزة أساسية من ركائز النهضة العلمية التي وجهت العقول وملأت القلوب بعظمة هذا التراث الخالد، ويتجلى في دوره العظيم المبدأ الإسلامي الخالد الذي قامت عليه النهضات العلمية في المشرق والمغرب وهو مبدأ "إعانة طالب العلم".

كما يصدق عليه قول المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1959م) في كتابه "مع المخطوطات العربية: صفحات من الذكريات عن الكتب والبشر": "فقد كان وما زال في كل مكتبة كبيرة قديما وحديثا عاملون غير ظاهرين كأنما فقدوا تماما معالمهم الشخصية وانصهروا مع المكتبة، ومع تلك الأعمال التي تنشأ فيها، هم أنفسهم ليسوا مبدعين أو خلاقين، بل ومن النادر أن يشغلوا بموضوعات خاصة بهم، لكنهم يعيشون في اهتمامات الآخرين كوحدة عضوية معها، وهم جد ضروريين للعلماء فبدونهم لا يمكن أحيانا أن تتم بعض الموضوعات أو تكتمل دراستها بطريقة حسنة" ص 149-150.

احتفى العلماء والأدباء بمطبوعات الخانجي الذي اعتاد "أن يطبع للأمة كل نافع من آثار السلف الصالح فأحيا بإقدامه عدة أمهات"

مصحح من شنقيط

ذلك الجهد الضروري للعلماء هو الذي نوه به الكوثري وشاكر في تقديرهما لجهاد الخانجي، والحقيقة أن تحقيق الكتب إحياء لها يقارب إعادة تأليفها لا سيما تلك المصححة على أصول متينة، وقد كان الخانجي حريصا على ذلك، ومن أشهر المصححين في مكتبته مع بلديِّه أبي فراس محمد بدر الدين النعساني الحلبي (ت 1940م) كان الأديب اللغوي أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت1331هـ 1913م)

فكما يقول المؤرخ اللبناني نقولا زيادة في كتابه "أعلام عرب مُحدثون": "كان أمين الخانجي الكتبي الشهير بمصر صديقا للشنقيطي، وكان معنيا بنشر كتب التراث، فهيأ لصديقه وسائل التأليف والتحقيق، ويسر له طبع جميع ما أخرجه من الآثار تقريبا"، ونقل نقولا عن فؤاد السيد قوله: "وقد علمت أنه أعد له سكنا خاصا في بناء المطبعة التي كانت تطبع كتبه، وهي المطبعة الجمالية، وكانت بحارة التتري داخل حارة الروم بشارع الغورية". ص 121.

احتفى العلماء والأدباء بمطبوعات الخانجي الذي اعتاد "أن يطبع للأمة كل نافع من آثار السلف الصالح فأحيا بإقدامه عدة أمهات"، كما يقول العلامة الرئيس محمد كرد علي الذي كانت مجلته "المقتبس" دائمة الاحتفاء بإصدارات الخانجي وتصحيحات ابن الأمين الشنقيطي لها مثل "أمالي الزجاج" و"معجم البلدان" للحموي، و"المحاسن والأضداد" المنسوب إلى الجاحظ، و"الإعلام بمثلث الكلام" لابن مالك، و"بغية الوعاة" للسيوطي الذي قرأه الخانجي على الشنقيطي العلوي.

من الكتب التي احتفى بها الرئيس محمد كرد علي في زاوية "مطبوعات ومخطوطات" من مجلته كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"

ومن الكتب التي احتفى بها الرئيس محمد كرد علي في زاوية "مطبوعات ومخطوطات" من مجلته كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"، حين أهداه الخانجي نسخة منه، وقال عنه "فيه كلام بديع عَلَى أدباءِ ذاك القطر وشعرائه وعلمائه وتخطيط البلاد وعاداتها وأخلاقها واقتصادياتها، والمؤلف من كبار اللغويين في هذا العصر، أملى هذا الكتاب من محفوظه فسدَّ بما نقله من شعر أبناء قطره وأخبارهم ثلمة مهمة في عالم الأدب وزاد الكتاب رونقاً، جمال وضعه وطبعه وشكله".

ومن طبعة الوسيط هذه عُرفت مكتبة الخانجي في صحراء المثلمين؛ فهذا الحلبي الشريف ذو حظ عظيم في إنقاذ التراث الإسلامي، فكما أخرج أمهات الكتب المشرقية والأندلسية أخرج لنا مدونة "الوسيط" التي لولا هي وصاحبها الموفق لضاع كثير من تراث هذا القطر الذي أضحى معقلا من معاقل العربية وعلوم الدين، وصدَّر للعالَم الإسلامي محققين أفذاذا أنقذوا التراث كهذا العلوي المنوه به وقريعه الأموي العلامة محمد محمود ولد اتلاميد التركزي (ت 1322هـ/1904م).

وآخرون لفتوا أنظار العالَم إلى ازدهار الآداب والعلوم في صحراء شنقيط، حتى قال رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق محمد كرد علي في محاضرة بباريس عنوانها "نهضة العربية الأخيرة" بعد حديثه عن تدهور العربية في بعض أقطار الشمال الأفريقي بسبب الاحتلال الفرنسي: "ولكن هناك في صحراء مراكش بلد غريب في تلقف ملكة العربية وأعني به شنقيط بلد الشيخ محمد محمود الشنقيطي الحافظ المشهور في عصرنا، وطريقة أهلها طريقة الأقدمين في التلقي والاستظهار، وقد شوهدت في شنقيط بعض البنات الشنقيطيات إلى اليوم يحفظن كامل المبرد مع الفهم، وأظن من يحسن فهم هذا الكتاب قلائل حتى في شيوخ الأزهر"، كما في مجلة المقتبس العدد 8، لعام 1909م. ص 605 وما بعدها.

ولا يخفى ما في نص محمد كرد علي من مبالغة، لكن الذي لا مبالغة فيه أن أعلاما من شنقيط وآخرين من مصر والعراق والشام والآستانة والجزائر وتونس والمغرب وجزيرة العرب، وبعض الخواجات، اتحدوا في لحظة تاريخية محورية من تاريخ الأمة على إنقاذ هذا التراث العظيم، فكان ما نعيش في ظلاله اليوم من أسفار بديعة الشكل رائعة الخط، ورحمات الله بعدد تلك الحروف وقرائها على روح محمد أمين الخانجي وأضرابه من الأفذاذ الأخفياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.