شعار قسم مدونات

"زينة الدنيا".. يموت الحالم ويبقى الحلم

blogs ربيع قرطبة
الكاتب: رواية "زينة الدنيا" من الأعمال القيمة للأديب المغربي حسن أوريد، تمم بها جهود التأسيس الروائي عن تاريخ الأندلس الذي بدأه في "ربيع قرطبة" (مواقع التواصل الاجتماعي)

تسترجع هذه الرواية البدينة [1] (رواية "زينة الدنيا") مرحلة حاسمة ومتقلبة من تاريخ الأندلس، بنفس روائي بديع وحبك مقنع، يدمج الوقائع التاريخية الحقيقية بالخيال الواسع، ليتحفنا بعمل فني أدبي رائق.

رواية "زينة الدنيا" من الأعمال القيمة للأديب المغربي حسن أوريد، تمم بها جهود التأسيس الروائي عن تاريخ الأندلس الذي بدأه في "ربيع قرطبة" [2]. لن تدعك تفلت من قبضتها وستلزمك القعود لساعات طمعا في إنهائها، أما إن كنت من دارسي تاريخ الأندلس ومحبيه، وعلى اطلاع ببعض مساراته وأبرز أحداثه من خلال المصادر والمراجع؛ فإني على يقين أنك ستحرص على أن لا تنهيها، وستطمع في أن لو ناهزت ألف صفحة. ستغضب وتحزن وتستفزك مواقف الرجل من السلطة ومساراتها ورجالاتها في الغرب الإسلامي، ولكن حتما ستستمع، لأنك أمام عمل روائي متقن.

الأندلس.. الوقائع لأهلها والخيال لكاتبه

تقاطعات كبيرة وكثيرة الترداد بين التاريخ والواقع والإبداع الخيالي. ويقيم الأديب أوريد هيكل الرواية على أرضية متون تأسيسية حين استدعائه للأحداث الممتدة ما بين تاريخ وفاة الخليفة الثاني الحكم بن عبد الرحمن، وتاريخ وفاة الحاجب القوي محمد بن أبي عامر المعافري، ويبنيها على زيارة ميدانية قام بها لقرطبة وإشبيلية ومجريط والجزيرة الخضراء وما بينها من أرباض وقرى وحصون، الباقي منه والتالد والقائم في بطون الكتب ودواوين الشعر.

تمتد الوقائع ودينامية الأشخاص الحقيقين الذين كانوا فاعلين في مسرح الأحداث بالأندلس عبر فصول الرواية جميعها، وتدخل القارئ في عملية إعادة القراءة لمسارات من تاريخ تلك المرحلة وتلك البلاد، ومساءلة بعض المسلمات التي انبنت في ذهنه، ورفض مواقف وأحكام الكاتب أحيانا، لأنه لا يمكن لنص روائي وقراءة أدبية لما حدث أن يقحمنا في نفس الإطار، لقبول ما يتلجلج في خاطر الكاتب.

الرواية رحلة خاصة مع تجربة إنسانية لذيذة ومتقلبة، حزنا وفرحا، بطلها شخص يتقلب في هويات وشخصيات ومواضع عديدة، سعيا للحقيقة من أجل زينة الدينا

من مفتتح الرواية إلى منتهاها؛ ينصب الجهد الجبار للكاتب على الجانب المتعلق بالخيال، بالإبداع، بالحوار، بالسرد وفنون الرد، وهو الشق الثاني الذي تنبني عليه الرواية. فالواقعي والخيالي لا ينفصلان، بل يتعالقان، يسيران صنوان ليقدما لنا عملا متميزا، مواكبان مجالات تنافس وتداخل السلطة والثقافة والدين، ومتعقبان طبيعة الصراعات الداخلية والبينية الحضارية، والصراعات الثقافية والتأويلية بين السلطة والمجتمع والنخبة، وكاشفان ما كان عليه حال زينة الدنيا.

الرواية رحلة خاصة مع تجربة إنسانية لذيذة ومتقلبة، حزنا وفرحا، بطلها شخص يتقلب في هويات وشخصيات ومواضع عديدة، سعيا للحقيقة من أجل زينة الدينا؛ الأندلس التي تليق بجميع مواطنيها، متسلحا في ذلك بذخيرة الأمل، وبالفطنة، وكرم القدر معه، وتصب أنهار حياته في مجرى حياة أسرة آمنة مستقرة، ليضيف إليها نكهة خاصة، ومعنى إلى معناها. عالم صغير مكون من مرية الغجرية وباشكوال، القوطي الروح، العربي اللسان، الدهري الأيديولوجية، وراحيل اليهودية، وجمانة/الرميكية المسيحية وتودة الزنجية، وزيري المسلم الأمازيغي الأندلسي. وفي سنوات أخرى؛ ينضاف يوسف المنشطر بين الانتماء للمنجب والـمحتضن، ثم تتريت التطوانية الأمازيغية، والبنية هند، آخر العنقود. توليفة عجيبة وبيت جمع الأشتات، في منطقة أستجة، مرساة الروح الحائرة لــزيري، والعقد الفريد، حيث يتحقق المجتمع الصغير الممثل لحقيقة زينة الدنيا.

تحبل الرواية بقضايا حقوق الإنسان والقيم والعقد الاجتماعي والفكر وطبائع الاستبداد واللغة والهوية وموقع العالم والفقيه في بنية السلطة "تهمني البنية التي أنجبت هؤلاء"، ص: 99، والجمال والنخبة، والجنس والعلاقات الغرامية (..) والأديان والعيش المشترك [3]، والدين والسياسة، وحرية الأفكار [4] والحروب.

ويحضر التاريخ شامخا في النص، تاريخ الأفراد، وتاريخ الهامش والمهمشين، وتاريخ الأقليات، وتاريخ الأمكنة، وتاريخ الـحكم والحكام، وتاريخ الفتوحات والغزوات، وتاريخ الأفكار والمعرفة [5] والشخصيات الـمبرزة في قرطبة وإشبيلية والمغرب الأقصى.

طبائع الاستبداد ومصارع المؤتمن على زينة الدنيا

في الجزء الثاني تطالعنا أحداث الرواية كاشفة عن وقائع فجائعية في تنامي طبائع الاستبداد وتخلق النخبة السياسية بأخلاق مرحلة الـمستبد، وتنتعش ذات الكاتب (أوريد) في التعبير عن مكنون مواقفه من السلطة والبلاط وفيالق تبرير الاستبداد من علماء وشعراء وحكماء ومثقفين وأدوات تنفيذية أخرى، ويوظف المؤلف تخصصه في العلوم السياسية وانحيازاته الفكرية إلى كتابات حكماء الإغريق ومتنوري حركة النهضة الأوروبية في الدفاع عن العقل والعقلانية والعدل وثقافة الاعتراف. وتتوارى إلى الخلف ربما بحكم تطورات مرحلة الأوج السياسي والعسكري للمنصور، ابن أبي عامر؛ عبارات التقدير لإنجازات الرجل، وما أكثرها مما ذكرته مصادر المرحلة وغيرها (ابن عذاري المراكشي، لسان الدين بن الخطيب، عبد الرحمن بن خلدون، أبو العباس المقري، محمد عنان)، وحتى إن وردت على لسان بطل الرواية أو العقلاني السياسي المعتزل (باشكوال) فهي من باب التهكم.

يتوسع المنصور خارجيا لتجديد شرعيته داخليا، ويستعمل سطوة الانتصارات الخارجية لضبط الرعية تحت مبرر حماية الدولة وصيانة بيضة الإسلام، فــ"كان اللجوء إلى القوة والبطش والعنف؛ احتماء من الخوف، من الهلع الذي يسكن كل متجبر" [6]، بينما يقرر الكاتب أن القوة الحقيقية "هي أن يقيم المنصور نموذجا تتعايش فيه الملل والنحل".

ولا يثنينا هذا الجانب في الرواية عن التمتع بالولوج إلى "الزاهرة" و"حي دار النعمان" و"منية السرور" وتعقب إيقاع الحياة الخاصة في العامرية وقصور الزاهرة والنقاشات المصاحبة للحملات الصيفية والشتائية للمنصور شمالا وجنوبا، وحواراته مع وزرائه وندمائه.

محنة حقيقية سيكابدها زيري، لكن المؤلف سيدخلنا إلى عوالم القوة لدى هذه الشخصية؛ الانكباب على العلم، التأمل، نهل الحكمة، الصبر الإيجابي

وتتطور شخصية زيري وتنضج على نار الحياة المتقلبة والظروف العصيبة، يزاوج فيها بين خبرته السياسية، وحنكته في التخفي وإدارة أزمة الهوية، وحياته الخاصة. نتابعه في كبد يفوق كبده، تتلاحق أنفاسنا ونحن نعايش انقماعه تحت آلة التحول الرهيب في مواقف وشخصية ابن أبي عامر، ونخبته الفاسدة، نعاني مع انشطاره بين ظاهر يبديه وحقيقة يخفيها، بين حرصه على الوفاء للإرث الثقيل الذي خلفه له الراحلون (تودة، إستير، باشكوال، راحيل)، وصيانته لزينة الدنيا التي جسدوها قيد حيواتهم، ومجاراة الواقع العنيد بغية تغييره، وتصحيح مساره، وحماية "الفكرة" التي يحملها.

ويأتي خبر الوفاة الغامضة لإستير والنهاية الأليمة لرفيقة حياته الرميكية ليهز كيانه، ويبديه لنا هشا ضعيفا، ووفيا في الآن ذاته. تخرجه تطورات الأحداث عن طوره، فيتموقف سلبا من عذاب الضمير الذي يلحقه به ابن أبي عامر نتيجة تصفيته المتتالية لوالي سرقسطة وابنه البكر عبد الله والسياف ابن خفيف وغيرهم، واستغراقه في الإهانات والسلطوية، فيفهم المنصور تموقف وزيره منه، ويشرع في ترتيب مراحل الرد. ولأول مرة وبعد مسار مطبوع بالدهاء والفطنة والنجاة من الأحابيل؛ يجد زيري نفسه أمام شخص استثنائي، يفوقه ذكاء [7] وخبرة ودهاء، سياسي من الطراز الخطير، يقرأ ما يجول في خاطره، ويدخله في متاهة من الأسئلة والشك والخوف. تتلاحق شكوك زيري ويتأكد من أنه مستهدف، وقاب قوسين من فقدان حياته، عندما سيُلقى به في الإقامة الجبرية، التي ظنها خيارا محمودا بادئ ذي بدء، لتنقلب جحيما لا يطاق، وقد طالت لـ9 سنين.

محنة حقيقية سيكابدها زيري، لكن المؤلف سيدخلنا إلى عوالم القوة لدى هذه الشخصية؛ الانكباب على العلم، التأمل، نهل الحكمة، الصبر الإيجابي، الغور في أرشيف هند [8] بمكتبة باشكوال، استجماع المعطيات عن الخارج من يوسف، النجاح في الالتفاف على ظروف الحكم والسياسة للظفر بزيارة أهله وقضاء بعض الوقت في أستجة التي تشكل لديه الواحة الفيحاء من هجير قرطبة والزاهرة.

تتصاعد الأحداث منذرة بقرب انهيار منظومة الحكم الفردي العامري، ومعها اشتداد ظروف الأسر على زيري، الذي أضحى حائرا لا يدري أفي الموت راحة أم في الصمود وانتزاع الحياة من مخالب الإقامة الجبرية والظرفية النفسية والعائلية والاقتصادية العصيبة؟ تنصرم الأعوام؛ ليلقى زيري نفسُه مطالبَ بمغادرة بيته صوب وجهة لا يعلمها، ليلتقي أخيرا -وجها لوجه- المنصور، الذي حافظ على توهج عقله ودهائه رغم مرضه الأليم في غزوته الأخيرة صوب الشمال. فاجأ المنصور زيري أنه كان على علم بحقيقته، وبحقيقة شخصيته [9]، وبحقيقة اندساسه في بلاط الحكم وتقربه إليه وأنه استنكف عن قتله، فيقابل زيري كلام المنصور بجرأة التعريف بنفسه ومساره، بل ويهدده أنه أكثر من مجرد رجل [10]، أنه فكرة، وحامي زينة الدنيا وشاهد على حقيقة الأندلس، وأنه لسان التاريخ.

وتجري سنة الحياة على الملك المنصور الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ويموت على مشارف مدينة سالم بقلعة النسور، سنة 392 هجرية، فتسقط أكبر سلطة سياسية وعسكرية في الغرب الإسلامي آنذاك، ونتفاجأ بالكاتب يعلمنا نبأ استشهاد البطل زيري ويبدع في إدخالنا متاهة السؤال عن حقيقة موته؛ إذ الجميع في الأندلس شكك في الرواية الرسمية لوفاته، فنأسى ونأسف على موت الحالم بأندلس تتسع للجميع، الحالم بترميم شظايا العلاقة المشطورة بين الحاكم والمحكوم، العالم والمتعلم، الصبي والراشد.

 

المراجع

  • (أوريد) حسن: "زينة الدنيا"، 639 صفحة، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2021.
  • (أوريد) حسن: "ربيع قـرطبة"، 170 صفحة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2018.

[1] (أوريد) حسن: "زينة الدنيا"، 639 صفحة، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2021.

[2] (أوريد) حسن: "ربيع قـرطبة"، 170 صفحة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2018.

[3] "هل يمكن أن نستغني عن الآخر في اكتشاف ذواتنا؟ وما يحق على الأفراد يحق على الجماعات، حينما يغيب الآخر؛ تضمحل الذات"، نفسه، ص: 294.

[4] يسأل إيغموراسن المغيرة (وهي من الأسماء الوهمية لبطل الرواية زيري) في نبرة لا تخلو من تهكم: "ألك أفكار يا مغيرة؟"، يجيب المغيرة "كل الناس لديها أفكار، ولكن لا يتاح لها التعبير عنها، وقد يتاح أن تعبر عنها ولا يستمع إليها، لأنها لا يعترف بها، من المهم جدا الاعتراف بالإنسان، كي يعطي أحسن ما عنده، ويصبح فاعلا في جماعة". يواصل الفتى البربري إيغموراسن "حتى البغايا؟"، يرد المغيرة "البغايا لم يـخترن وضعهن، ولذلك ينبغي التجني على الظروف التي دفعتهن إلى البغاء"، ويواصل الفتى في استهزاء وتعجب "حتى اليهود؟"، يجيب المغيرة "حتى اليهود"، "حتى الزنوج"، "نعم"، "حتى العرب"، "نعم، حتى العرب". هكذا ينتصر الكاتب لحق الجميع في ممارسة الفكر، وقوله والتعبير عنه. /انظر: "زينة الدنيا"، ص: 336 _ 337.

[5] مبدؤها "السؤال، شرط السؤال الاستفهام، وحافز الاستفهام الاندهاش، الأفراد والمجتمعات التي لا يسكنها الاندهاش لا يمكن أن تبلغ المعرفة. المعرفة الحقيقية التي ينتهي إليها الإنسان بذاته، لا معرفة الآخرين التي تخزن وتنقل كبضاعة"، نفسه، ص: 287.

[6] نفسه، ص: 399_ 400.

[7] يعلق المنصور "ذكاؤك يا ابن صمادح لن ينفعك معي، ذكاؤك في خمتي، متى أردت ذلك، فعسى أن ينفعك في الإبقاء على حياتك"، "زينة الدنيا"، مرجع سابق، ص: 425.

[8] يتعذر الجزم بكون هذه الشخصية حقيقية أم مجرد شخصية وهمية من صنع خيال كاتب الرواية. تحضر شخصية هند بنت عوف في رواية "ربيع قرطبة"، غادة حسناء تأخذ بمجامع قلب ولي العهد آنذاك؛ الحكم بن عبد الرحمن، غير أنه لم يتمكن من الزواج بها، حيث زوجها الخليفة الناصر لولده عبد المالك. ونتعرف لاحقا أنها أحبت باشكوال -الشخصية المهمة التي تحضر في روايتي "ربيع قرطبة" و"زينة الدنيا"- وهاما في حب بعضهما، إلى أن كان مصيرها النفي والإبعاد إلى جزيرة ميورقة، لتبدأ فصول محزنة في حياة هند، وتجربة عاطفية قاسية في حق باشكوال. يخصص الكاتب الفصل الموسوم بعنوان (ميورقة) من روايته "زينة الدنيا" لاسترجاع شريط الذكريات التي جمعت هندا بباشكوال، من خلال اكتشاف بطل الرواية (زيري) لأرشيف المراسلات التي بعثت بها هند من منفاها إلى أستجة، حيث مستقر باشكوال بعد اعتزاله عالم السياسة وأحابيلها.

[9] من كاتب خاص للخليفة الـحكم المستنصر بالله في أخريات حياته، وذلك في رواية "ربيع قرطبة"، إلى شخصية هارون بن عمران اليهودي، ففقيه متنكر بمسجد قرطبة، فحلاق وحجام يحمل اسما مسيحيا قوميز، فمستخدم في فرن تقليدي باسم مستعار الـمغيرة؛ فعالم وأديب ووزير في بلاط المنصور تحت اسم وهمي آخر ابن صمادح. شخصية أتقنت جيدا فن التورية والتخفي.

[10] يكتب يوسف على شاهدة قبر زيري "لذكرى زيري؛ من آمن بالإنسان، وبزينة الدنيا، من سكنته فكرة فنـفثها أريجا، من آمن بلقاء العـدوتين، الخلود لما آمن به"، ص: 638.