في العصور التي تلت الثورة الزراعية والصناعية مثلت الموارد الطبيعية عصب الاقتصاد وأساس التنمية في الدول الصناعية، أما اليوم وبعد أن قطع البحث العلمي أشواطا متقدمة في التطوير والابتكار، ومع بزوغ فجر الإنترنت والذكاء الاصطناعي والاتصالات الإلكترونية والتكنولوجيا الرقمية الحديثة فقد أصبحت المعرفة أحد أهم محددات التنمية ومؤشرا على قوة وتنافسية الدول الحديثة، خصوصا مع تعاظم مخرجات الثورة الرقمية والمعلوماتية، وبروز مفهوم رأس المال الفكري والبشري القائم على تنمية الموارد البشرية، وتوليد المعرفة والأفكار ونقلها وتدويرها والاستثمار فيها، وقياسها كأصول ربحية ومعادلات حسابية وأرقام كمية، بهدف حساب أداء الموارد البشرية وتطوير مخرجاتها التنظيمية والفكرية والإنتاجية.
ما هو رأس المال البشري؟
تهتم جميع فروع العلوم الاجتماعية اليوم بمفهوم رأس المال البشري، لأنه يمثل عاملا مهما من عوامل جودة ونجاح المؤسسات الحديثة، كما يعتبر من بين المفاهيم الأساسية في التحليل الاقتصادي المعاصر.
ويطلق رأس المال البشري على معنيين، فمن الناحية المجتمعية الكلية يقصد به جميع الأفراد داخل المجتمع الذين يتمتعون بالخدمات اللازمة من صحة وتعليم وأمن وبيئة سليمة وبنية تحتية متطورة، فالدول المتقدمة تستثمر في مواطنيها باعتبارهم رأس مالها البشري، وأي إنفاق تبذله في صالح ترقيتهم اجتماعيا واقتصاديا يعتبر إنفاقا استثماريا.
أما من الناحية التنظيمية الجزئية فيعبر مفهوم رأس المال البشري عن الكفاءة المتميزة التي تتجمع لدى الفرد من خلال تراكم المعارف والتجارب الخاصة التي يمر بها خلال مسيرته العلمية والعملية، حيث تتكون لديه المهارة والجودة في الأداء من خلال الاحتكاك الدائم بميدان العمل والإحاطة بكافة تفاصيله ومعضلاته والتعود على حل المشكلات وإنجاز المهام بطريقة احترافية، فعندما يصل الفرد إلى هذا المستوى من المهارة يوصف بأنه "رأس مال بشري"، أي أنه ذو قيمة مهارية ومعرفية ممتازة، وبذلك تزداد أهميته لدى المنظمات الحديثة ولا يمكن التفريط فيه، لأنه يمثل أحد المركّبات الأساسية لتكوين الميزة التنافسية والجودة والقيمة المضافة.
رأس المال البشري في عالمنا العربي: النزيف الذي يأبى التوقف
مما يؤسف له أن رأس المال البشري في عالمنا العربي يعاني تهميشا رهيبا، فكثير من الدول العربية تخسر الآلاف من خيرة كفاءاتها التي تكونت في جامعاتها وأنفقت على تعليمها المليارات ثم هاجرت من بلادها مكرهة تحت وطأة الرداءة والبيروقراطية المتسلطة والفساد الأخلاقي والعلمي والوظيفي.
وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور ياسر خضير البياتي في مقال له بعنوان "تهجير العلم وتوطين الجهل" أنه "بلغة الأرقام تشير إحصاءات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات المهتمة بهذه الظاهرة إلى أن الوطن العربي يسهم بـ31% من هجرة الكفاءات، وأن 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يتوجهون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، مما أدى إلى تكبد الأقطار العربية خسائر جسيمة جراء هجرة العقول بلغت أكثر من 300 مليار دولار في الوقت الحاضر، وهي خسارة غير منظورة في اقتصادات هذه البلدان.
ولا جدل في أن الوطن العربي منذ زمن بعيد تعرض لاستنزاف في طاقاته المادية والاقتصادية والاجتماعية، وهو استنزاف أضعف حركة المجتمع وديناميكيته، ومزق كياناته الاجتماعية والثقافية، وعطل تطوير العقل وتنمية العلم والإنسان، فهذا الاستنزاف لم يكن معزولا عن التفكير الغيبي أو السلطوي الاستبدادي الذي تحكم في ثقافة المكان والزمان، وأدى إلى شيوع ثقافة اللامبالاة تجاه ظواهر الحياة، بمعنى أن خسارة المجتمع جراء الاستنزاف المجتمعي ما كانت لتحدث لولا تخلف المنظومة السياسية العربية ومؤسسات المجتمع وركودها وعدم فعاليتها في إدارة الأزمات بأنواعها واستشرافها للمستقبل". (1)
وهذا يعتبر من أشد أنواع الإفلاس الذي تُمنى به الكثير من دولنا ولا يأبه له المسؤولون عندنا، لأن مستويات التفكير عندنا -سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى القيادات السياسية- لم تستوعب بشكل عملي القيمة اللامحدودة للموارد اللامادية، أي الموارد البشرية والمعرفية ودورها في التطور الاقتصادي، فمفهوم الثروة في اهتمام الساسة منحصر في الموارد الريعية التي يجود بها باطن الأرض وظاهرها، حتى أن الاقتصاد عندنا مطبوع بطابع ريعي مرتهن بعوائد الثروة الطبيعية.
كما أصبح رهان التنمية وتحسين الظروف الاجتماعية منوطين بزيادة إيرادات الدولة من صادرات الثروة الطبيعية لا من عبقرية علمائها وكفاءة شبابها، ولهذا فأي خلل أو تذبذب يقع على مستوى هذه الإيرادات يرتد أثره السلبي مباشرة على مشاريع التنمية والمستويين الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.
أحشفا وسوء كيلة؟
إن الموارد الريعية التي تُعوِّد على الاتكالية وتقتل الطموح والجهود الذاتية وتفلس رأس مالنا البشري هي في حقيقة الأمر نقمة على البلاد والعباد ما لم تتحول إلى وسيلة لبناء الإنسان والاستثمار فيه ووضع البُنى القاعدية لتطوير الشركات الناشئة وتدعيم مراكز البحث والجامعات ومؤسسات التعليم وتمويل ودعم الابتكارات والحاضنات، لا أن تربط هذه الموارد مباشرة بالمعيشة اليومية للمواطنين وتُرهَن بها المشاريع والسياسات التنموية.
ومن نكد الدنيا على الحر أن ترى في بلادنا العربية ابتهاجا عند سماع خبر اكتشاف حقل بترول أو غاز أو منجم للحديد أو الذهب أو الفوسفات، أو ترى الدهماء تتسابق لحضور حفل غنائي أو رؤية فنان أو مغنٍ والركض وراء من لا يقدمون أي قيمة نوعية لمجتمعاتهم، في حين لا نرى أي أسف أو حسرة على هجرة رأس مالنا البشري من أطباء ودكاترة ومبتكرين وكفاءات بمئات الآلاف سنويا، ولا نشاهد أي احتفاء شعبي أو إعلامي بهؤلاء العباقرة وأصحاب المقامات العلية علما وأدبا، ثم نتساءل بعد ذلك عن سبب رداءة الطب وتراجع التعليم وسوء الخدمات، فنقع في الإفلاس مرتين: إفلاس ضياع رأس المال البشري وإفلاس ضياع البصيرة والوعي الجمعي:
فإن كنت تدري فتلك مصيبة .. وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم
وما أبدع ابن الرومي حين وصف زمانه لا زماننا:
نحن أحياء على الأرض وقد .. خسف الدهر بنا ثم خسف
أصبح السافل منا عاليا .. وهوى أهل المعالي والشرف
……………………………………………
(1) ياسر خضير البياتي "تهجير العلم وتوطين الجهل"، مقال منشور في جريدة الزمان العراقية بتاريخ: 14 سبتمبر/أيلول 2019.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.