يتحدث الناس في كل مكان، فيبوحون بهمومهم، ويعبرون عن معتقداتهم، ويفصحون عن أفكارهم، ويناقشون أخبارهم، ويتداولون أحوال واقعهم، ويفصحون عن أسرارهم، ويشاركون الآخرين نجاحاتهم، ويتعاضدون معهم في فشلهم وخيباتهم، يقولون لبعضهم الصدق والكذب، يكشفون عن الحقيقة وضدها، يكذبون الكذبة ويصدقونها، يتحدثون في القيم النبيلة وفي الرذيلة، يحكون القصص الجديدة والقديمة، ويروون الحكايات والأساطير إلى آخر ذلك من حكايات الناس التي لا تنتهي وحواراتهم التي لا تنقضي، والتي تُشكل مادة دسمة وأرشيفا ضخما لأصحاب الخيال من الشعراء وكُتاب السيناريو والأدباء من كتاب القصة والرواية كما قال الروائي عبده خال: "أستقي الكثير من مواد روايتي من حكايات الناس في المقاهي".
نعم.. لا شيء جديد في هذه الحياة التي يُعيد فيها التاريخ نفسه، فتتشكل القصص ذاتها التي تحمل المضمون نفسه مع أشخاص جدد، وتستمر عجلة الحياة في الدوران، تعيد لنا العوالم القديمة في عوالم جديدة بمصطلحات حديثة وأسلوب حياة جديد في شكله، عتيق في معناه، أصيل في مضمونه، كما قال أحد المؤلفين: "المؤلف سارق للمعرفة! فهو يأتي بعشرة مراجع، ويعكف عليها حتى يُخرج منها كتابا جديدا".
يا ترى هل هذا الكتاب الحادي عشر يمثل حياتنا؟ حينما يفاجأ الناس من كاتب أو كاتبة كانوا معهما في مجلس مليء بالأحاديث الغزيرة، ثم بعد أيام وجدوا أقوالهم بلا أسماء في كتاباتهما، وقرؤوا قصصهم في رواياتهما! فضاقوا ذرعا بذلك، واتهموهما بالمُتاجرة بحواراتهم!
أو قد يصمت بعضهم بذريعة بقائه في مرحلة الشك! يتساءل لوحده: "هل أنا بطل الرواية؟ هل يقصدني حينما تحدث عن ذلك الأمر؟"، ويبقى في دائرة الحيرة تتوسع من حوله في هالات من الأسئلة التي تموج به في بحار الحياة.
وقد يهجم الأصدقاء في إطار المزاح على الكاتب فيقولون لبعضهم: "لا تحدثونه سيكتبها غدا في مقال"، ويواصلون تماديهم الضاحك، فيعرضون البوح بالقصص -المُكررة- مقابل أن يمنحهم بعض المال! وبعضهم يكون أكثر صراحة حينما يقول له: "هذا ليس للنشر"، وغيرها من المواقف الطريفة التي تجعل الكاتب في مرمى سهام الشك، مما قد يُصعب عليه إيجاد مادة يبني عليها مقاله لاحقا!
ما هذا الهجوم الجامح على الكاتب الذي يسعى فقط لالتقاط خيط الفكرة من مجلس قد ينسى أهله بعد الانحسار عنه ما قالوه. وقد تكون هذه الفكرة شبيهة بأفكار أخرى ليست لهم، منثورة في فضاءات هذا العالم المتشابه. فالإنسان بثقافته وأصالته هو الإنسان في كل مكان بكل أعرافه وديانته وأطيافه، ينحو نحو الفضيلة ويمقت الرذيلة وإن فعلها، ويبحث عن إيجاد حيلة مناسبة للبقاء، مما يجعل قصصه في كل أنحاء العالم متشابهة في أصلها مختلفة في تفاصيلها المكررة بمد سمع هذا العالم وبصره، والتي يتجلى فيها التاريخ وكأنه ماسح ضوئي يعيد للحياة صورتها القديمة في منظر جديد يتفق فيه العالم على ضرورة إيجاد سُبل البقاء بكل الطرق الممكنة والمستحيلة.
إن جاز التعبير، فالكاتب وجد هذه الأفكار على وسائد المجالس وطاولات المقاهي، فاستلهم منها قصصه التي يروي فيها تناقض الإنسان، وصراعه مع الخير والشر، ومعاناته التي يحاول أن يُثبت فيها ذاته أمام الحياة، وركضه الحثيث خلف عباداته وشهواته، وهروبه من متاعبه وآلامه، وسعيه خلف نجاحاته وآماله، أو حتى وقوفه في المنتصف حائرا يبحث عن دوره المفقود على مسرح الحياة قبل أن يسدل الموت عليه ستاره وتنتهي قصته الدنيوية للأبد.
لكن تعالوا.. لنلملم هذه القصص المكتوبة إلكترونيا أو ورقيا، والتي سُردت في سيناريوهات الأفلام والمسلسلات، ونتأمل فيها وجوهنا الضائعة في سوداوية تضخم الأنا!
ونُعيد الكرة مرتين بل مرات في مرايا الحقائق التي تكسر قيمنا المثالية، لنعود إلى صواب قيمنا الواقعية التي تُمثل أحوالنا الخالية من الأقنعة، وتُعبر عن ذواتنا كما هي بلا رتوش لنحفر في أسرارها ونواجه جوهرنا البشري كما هو لنعي حقيقة الصراع الكامن ضجيجه فينا.
يجدُر بنا أن نقولها لكل شاعر أتعب مخيلته لكي يُعبر عن حالتنا حينما قلنا بتلقائية غير واعية: "وااااو، كأنه يصف الموقف الذي حصل لي"، أو نقولها لروائي: "يا الله هذه القصة التي بين يدي كأن صاحبها يتحدث عن أحوالي مع عائلتي"، أو يمكننا أيضا أن نقولها لرسامة: "رسمتها تشبه شكلي يوم انتهت علاقتي به".
وهكذا دواليك ستظل سرقة الكتابة المُباحة معنويا متواصلة عبر الأزمنة والعصور، يعبّر فيها الكتّاب والكاتبات عن صوت وصدى الإنسان الصافي والمبحوح، وصياغة القصص والقصائد التي تروي أحوال البشر كما هم في واقع حقيقة الحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.