"حباب السنانير": أي مرحبا بالأحباب السناريين، هكذا رسم حاج الماحي محمد عبد الرحمن في قصيدته التي تعود للقرن الـ18 صورة هوية السودان النيلي -قبل الحكم التركي- عندما صوّر ترحيب أهالي ينبع وباديتها بالمحمل السوداني القادم بحرا.
إنها سنار عاصمة النيل الأزرق، لا أعني العاصمة الحديثة قرب الخزان بل المدينة الأقدم المشهورة اليوم بسنار التقاطع، ومن المفارقات أن سنار التي صاغت هوية عامة للسودان النيلي تجلس القرفصاء حزينة مغلوبة الحيلة، محاطة بالدماء في الروصيرص، والدمازين.
الهوسا.. سؤال الأصيل المزمن
مَن الأصيل والوافد في سودان شهد هجرات حتى الربع الأول من القرن الـ20؟ هذا السؤال ليس سؤالا موجّها للتاريخ، بل في الحقيقة يوجّه للدولة السودانية التي أخفقت في فهم طبيعة المجتمع، والتماهي معها، واستيعابها، وذلك ما أدى إلى شروخ جعلت نمو المجتمع وتطوره أمرا مشوّها باستمرار.
فأسئلة الأصيل والوافد تطرح في المجتمعات التي فشلت الدولة فيها في بناء رؤية مركزية جامعة لأبناء الوطن كافة، ويتعقد السؤال مع التشوهات التي شملت البنى التقليدية، والمجتمعات المحلية، والتي جعلتهم لا هم كما كانوا قبل الدولة الحديثة، ولا ما أرادتهم الدولة الحديثة ذاتها أن يكونوا.
فالنموذج الحديث للدولة، الذي تبنّته النخب بعد الاستقلال، أخفق في استيعاب المجتمعات المحلية، بل ربما عادى بعض بناها التقليدية، بسبب ما عدّته النخب تصالحا بين تلك البنى التقليدية والمستعمر، والحقيقة أن ذلك التصالح كان أطول نفسا من قوى تقليدية اكتشفت في القرن الـ19 أنها تقاتل المدافع النارية بالسيوف، فوجدت من الحكمة الانحناء المؤقت للعاصفة، ومحاولة التفاهم مع الوافد، وهو ما استمر عند قدوم المستعمر لاحقا.
بإيجاز، عندما تخفق الدولة يبحث الجميع عن ضمانات لحقوقهم في الجماعات ما دون الدولة، فتستيقظ القبيلة، والإدارة الأهلية، وتتدخل الجماعات الدينية، وكثيرا ما يحال بينها وبين التدخل، فيزداد الأمر تعقيدا، بخاصة مع وهم القوة والجبروت الذي يعمي بصائر ماسكي السلطة.
مفاجأة الهوسا
هل كان مفاجئا لغير السودانيين وجود قبيلة اسمها الهوسا في السودان، والهوسا قبيلة نيجيرية، فما الذي جمع الشامي بالمغربي كما يقول أبناء شمال الوادي الأحباء؟ الحقيقة القائمة هي أن النيل كان مغريا لأبناء أفريقيا جميعا، ووجود السودان كيانا مسلما في الطريق للحج جعل كثيرين يستقرون فيه من مختلف مناطق أفريقيا الغربية، ويندمجون فيه، فلا عجب أن توجد أسر نيجيرية الأصول في شمال السودان، وإن خفي ذلك على غير المتبصر، لقدم وجودهم الذي يعود إلى 400 عام، لأسباب دينية بحتة، بل توافد الشناقيط من موريتانيا وعّاظا جائلين على شمال السودان، ووسطه، ومن أعقابهم أول رئيس للبرلمان السوداني عام 1948؛ الراحل محمد صالح الشنقيطي.
ولطالما مثلت مناطق السافانا في الجهة الفاصلة بين شمال السودان وجنوبه أماكن رعوية مثالية للهوسا، فجاؤوها منذ أزمنة بعيدة، واندمجوا في وسط ديني منسجم معهم بمذهبه المالكي، وتصوفه، وطقوسه الشعبية التي يستحق بعضها الانتقاد لما يحتويه من إشكالات تصل إلى الاتهام بالشعوذة.
وما لم يتوقعه حتى كثير من السودانيين هو تعداد الهوسا، وامتدادهم، الذي اقتصر ذهنيا على منطقة القضارف وجنوبا حتى النيل الأزرق، لكن الذي فاجأ كثيرين هو تمددهم من النيل الأزرق مرورا بالقضارف، وانتهاء بكسلا شرقا، ومن ناحية أخرى تمددهم حتى النيل الأبيض، وهو ما يرجع إلى عوامل تتعلق بالبنية الاجتماعية للقبيلة التي حافظت قطاعات كبيرة منها على نمط معيشة تقليدي رعوي، يؤمن بكثرة الإنجاب وسيلة للنمو الاقتصادي، وأسلوبًا من أساليب الحماية الاجتماعية ضمن بنية القبيلة الواحدة.
النموذج السناري والهوسا
عندما نشأت سنار عام 1500م، وتولى حكمها عمارة دونقس -الذي يقال إنه يعود في نسبه إلى بقايا بني أمية المختلطين بشعوب الهضبة الحبشية- كان التحالف أفريقيا عربيا محضا، فالقواسمة مثلوا قوة ضاربة بقيادة عبد الله جماع، في حين تولى عمارة دونقس لسبب غامض الحكم في سنار، وسرعان ما استوعبت سنار خليطا عجيبا من العرب، والنوبة، والفونج، بل قدم إليها من كردفان بعض المسبعات من حكامها، وأسهموا في حمايتها من الهجوم الحبشي في القرن الـ18.
النموذج السناري، الذي جسده حاج الماحي في قصيدته، واصفا أهل السودان النيلي بأنهم سناريون، النموذج الذي أنشأ الرواق السناري في الأزهر الشريف، أخفق في القرن الـ20 في استيعاب الهوسا لتعقيدات أملتها مصالح النخبة، وربما أفقها الضيق، وتفكيرها في السلطة لا الدولة، والمصالح الخاصة لا المصلحة العامة.
الفونج الذين صاغوا قصة سنار قديما، والهوسا الذين استقروا منذ قرن على الأقل في النيل الأزرق لم يعودوا قادرين على احتمال بعضهم بعضا، لأن القواعد اختلّت، فإلغاء الإدارة الأهلية، ثم عودتها أدى إلى خلخلة بنيتها، وأكملت 30 عاما من تلاعب ديوان الحكم الاتحادي بالإدارة الأهلية في السودان المهمة، لتصل بالمجتمعات إلى حالة من انعدام الثقة بالحكومة المركزية، والتوجس الكامل من المكونات الأخرى، ويحمّل كثيرون من المهتمين ديوان الحكم الاتحادي مسؤولية الخلل في الإدارة الأهلية الذي قاد إلى مشاكل دارفور.. ويمكن بهذا فهم جزء من مشاكل النيل الأزرق.
الحل..
لا يمكن رسم الوصفة بواسطة أطراف أجنبية عن الموضوع، لا تعرف تفاصيله، ولا التوازنات التي تحكمه، بل ينبغي الإصغاء أولا لصوت الأرض، والناس، والاستيعاب لشبكات المصالح الاقتصادية المحلية، وإيجاد تعويض لمن يتوقعون أنهم سيخسرون نتيجة أي ترتيبات جديدة، والتفاهم لترتيب البيت الداخلي. وفي هذا السياق، يمكن للمثقفين المحليين، وشيوخ الطرق الصوفية، والدعاة، والمتخصصون في الاقتصاد والاجتماع من أبناء تلك المناطق المشاركة في إيجاد الحل، بجلوسهم معًا، وإلا سيدفع الجميع الثمن.
حكمة وادي آمور
يروى أن المحكمة أوفدت وفدا قضائيا لترسيم الحدود بين قبيلتين في واد يفيض في موسم الأمطار بشرق السودان، وقام الوفد برسم الحدود بتنصيف الوادي بين القبيلتين اللتين كان أبناؤهما يتفرجون، ويضحكون، ويرطنون بلغتهم المحلية، وفي النهاية تقدم شيخ مسنّ مجرب، وقال للقضاة: لقد ارتكبتم خطأ سيتسبب في إفناء القبيلتين، فتعجب القضاة، وسألوه، فأجابهم بأنه يجب تقسيم الوادي بنسبة ثلث إلى ثلثين، فتعجب القضاة أكثر، فأجابهم بأن حكمه مبني على السحاب، لا المساحة، فالقبيلتان تحتاجان إلى الوادي لزراعة الأرض، وسقي البهائم، وانحدار الوادي يجعل الماء المتجمع في ثلثه مساويا تماما لما يحويه الثلثان، وعليه: ليحصل كل طرف على حاجته.. يجب أن يقسم الوادي لا بالتساوي بل بما يحقق المصلحة.
هل تفهم نخبتنا درس وادي آمور؟ أشك..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.