عنونت هذا المقال بادئ الأمر بـ"نفثة مصدور" حين ثارت علـي مشاعري ووجدت حرقة في الصدر لا علاج لها سوى أن أنفثها على الورق حتى لا أحترق في داخلـي، وذلك لما وقفت على كتابات نثرية ونظمية أبدى كتّابها إعجابا بأنفسهم، وإنه لداء عضال أن يصاب الكاتب بالعجب وليس له ما يخوّله للتيه والخيلاء، ثم بدا لي بعد ذلك أن من الإنصاف بمكان أن أقسم هذا المقال بين الكاتب والكلمة، وجعلت العنوان "يوم للكلمة ويوم عليها"، إذ هي قوام الكتابة وعليها المدار.
يوم عليها:
إن الحروف تموت حين تقال
لست أدري بالضبط ماذا أراد نزار قباني وهو يرسم هذه اللوحة البديعة، ولا أرى أنني ملزم بمعرفته، فالكلمة كما يقال ملك للمتلقـي، إلا أنه كثيرا ما تتجلى لي هذه العبارة حين أرى كاتبا يغتال الكلمات في مهدها، يمزقها إربا إربا، ثم يرمي بها شظايا تكاد تبصر الأحرف فيها مثخنة بالجراح وهي تحاول الفرار من مخالبه، لكنها مع الأسف الشديد لا تفلت منه، وتبدو لك أفكاره الساذجة وهو يفرغها في قالبه المكسور هشة تلفـّها الكآبة والإحساس القاتم الحزين؛ تمضغ يديها ندما على حظها العاثر..
وقديما قيل "لا يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقل شعرا أو يؤلف كتابا"، ذلك أن الخطر ماثل والعدو بالمرصاد، وهذا إذا كان الكاتب من الطراز الرفيع كالجاحظ والتوحيدي، فكيف به إذا كان من ضعفة الحرف باعة الفكر الذين يخيّل إليك أنهم يتعمّدون إغاظتك في كل مرة يطلقون العنان لقلمهم، في كل مرة يسيلون لعابهم على خمائل الورق الصقيل، ومع ذلك كله يتبجحون بكتاباتهم ويضفون على أنفسهم أوصافا براقة لا يستحقون عشرها، ولو سلّمنا جدلا أنهم يستحقونها، فهل كان من اللائق حقـا أن يتطاولوا بها على غيرهم؟! لكن مع ذلك كله، يبقى من الحكمة أن نقول إن الغرور لا يفسد للإبداع قضية.
فهلا امتثلوا وهم يكتبون بقلم الملاك الحالم ويعتمرون قبعة الدكتاتور الغاشم نصيحة عبد الحميد الكاتب في رسالته التي أخلص فيها النصح للكتّاب حيث يقول "ولا يقل أحد منكم إنـه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره.."، وفي فقرة أخرى: "وإياكم والكبر والصلف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة..".
يوم لها:
ولكن في أحايين أخرى كثيرة، تثأر الكلمة لنفسها، وعندئذ يستوي المحسن والمسيء، فكم من قتيل كانت كلمته سببا في هلاكه، ولعل من أوائل أولئك امرأ القيس بن حجر وطرفة بن العبد، ومن مشاهيرهم المتنبي وابن عمار، وسوف نورد لكل من هؤلاء نبذة نتعرض فيها لسبب قتله.
امرؤ القيس بن حجر
شاعر من نجد ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار" (جاء في مسند الإمام أحمد، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع). ولقد كان من أوائل الذين نظموا قلائد الشعر، فأحكموا نسجها، ويحكى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذكر له قال "سابق الشعراء خسف لهم عين الشعر"، وقد كان أبوه ملكا على بني أسد وقد نهاه عن قرض الشعر فلم يخفض له جناحه، فطرده إلى أن بلغه موته، فقال "ضيّعني صغيرا، وحمّلني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر". وتحكي بعض المراجع أنه سار يطلب النصر حتى قدم على قيصر فعشق ابنة له، وقال فيها شعرا، ثم إن الملك بعثه في جيش عظيم ليثأر لأبيه، ويتقلد ملكه، فأخبر الطماح بن قيس الأسدي الملك بحكايته مع ابنته، فبعث إليه بحلّة مسمومة فلبسها، فتناثر لحمه وتفطر جسده ومات في أنقرة.
طرفة بن العبد
زعم ابن دريد أن اسمه عمرو وإنما لقب طرفة لقوله:
لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا .. ولا أميريكما بالدار إذ وقفا
فقد قتله عامل عمرو بن هند بالبحرين في ريعان شبابه بسبب هجائه له، وذلك أنه أتى عمرو بن هند مع خاله المتلمس يتعرضان لمعروفه، فكتب لهما إلى عامله في البحرين وقال لهما "انطلقا إليه فاقبضا جوائزكما، فخرجا حتى هبطا النجف، فلقيا غلاما قارئا، فطلب منه المتلمس أن يقرأ له كتابه، فإذا فيه الأمر بقتلهما، فرماها في النهر، وأخبر طرفة بالخبر، فلم يصدقه، ومضى حتى قدم على عامل الملك، فقطع رجليه ويديه ودفنه حيا".
المتنبي
ومن مشاهير شهداء الكلمة الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، فلا حاجة إلى التعريف به، ومن المفارقات العجيبة أن يقتل بأردأ قصيدة من شعره إذ قتله فاتك بن أبي جهل الأسدي بسبب هجائه لابن أخته ضبة بن يزيد العتبي بقصيدة ركيكة يقول في مطلعها:
ما أنصف القوم ضبه .. وأمـه الطرطبـه
رمــوا برأس أبيـــه .. وباكوا الأم غلبه
ثم أقذع بعد هذين وخرج عن المألوف، ويقال إنه همّ بالفرار حين لقيه فقال له أحد أبنائه: أتهرب وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فعدل عن الهروب حتى قتل، وبذلك طويت صفحة عمره، وبقيت صفحات ديوانه مفتوحة لا يطوي الزمان نشرها.
ابن عمار
جمعته بالمعتمد بن عباد روابط صداقة حميمة قبل أن يهجو زوجته وبنيه ليسجنه ابن عباد ثم يقتله، بعد أن كان ظله الذي لا يفارقه ونفسه التي امتزجت به امتزاج الروح بالجسد، وقد قال فيه شعرا كثيرا ضمنه اعتذاراته، فلم تنفعه تمائم الحب والثناء، ومن أجود ما قال فيه حائيته البديعة التي يقول في مطلعها:
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح .. وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزيـــــة .. فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
وفي الختام، أرى أن من الواجب أن أنبه القارئ إلى يوم ثالث غير هذين تعلن فيه الهدنة، فتدقّ الطبول وتعلو الأهازيج المطربة، ويدعى القرّاء إلى مأدبة تضم ألوانا من الأطعمة حلوة المذاق، فلعله يكتب لنا إلى هذا اليوم التفات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.