حدثني صدقي الذي يعمل قاضيا للفض بين المتنازعين في الحوادث المرورية عن قصة غريبة مفادها أنه باشر في عمله 3 حوادث وقعت لشخص واحد في أوقات متقاربة! وعندما التقى هذا الشخص في الحادث الثالث بيّن له صديقي السبب حينما قال له بالدارجة السعودية: "شيلها من قلبك"، وتعني "انزع حب السيارة من قلبك، وستزول عنك الحوادث بإذن الله".
تمهد هذه القصة التي تتجلى فيها روح الحكمة لمدى رؤيتنا لكل المتعلقات التي تأسرنا في الحياة، وتخرج منا الحب المجنون للأشخاص والأشياء، والتعلق المرضي الذي يجعلنا نشعر بأننا لو فقدنا هؤلاء الأشخاص أو خسرنا تلك الأشياء ستنهار حياتنا، وستخور قوانا، وتتقهقر أحوالنا، وتتلقب أيامنا، وتنسج عنكبوت الحزن بيتها على آفاقنا، ولا تطفئ أشربة النسيان نيران ظمأ شُغف حنينا لهذا المفقود أو ذاك!
ولأن الإنسان مركب من قلب فذلك يجعله عجينة مشاعر جياشة تجعل إمكانية تعاملنا معه كأنه آلة يضغط فيها زر النسيان أو مؤشر التأقلم أمرا صعبا، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يعني القلب (رواه الأربعة).
هذه التركيبة المشاعرية هي التي أخرجت من الشعراء شاعريتهم التي سطّروها على جبين التاريخ نزفا لا يُرى، وحزنا لا يلمس، وإرهاقا لا يحس، وأحاسيس تختلج في لواعج الوجدان بنار الأنين، ولظى الحنين المشتعل في تلك القلوب التي تعلقت بما تحب، وسكبت مياه المحبة إلى آخر قطرة، وسلّمت زمام حياتها للآخر المفتونة به، لتصبح أشبه بدمية لم تقو فيها على ضبط سيل الحب العارم، وطوفان التعلق الجارف الذي إذا حدثت فيه أدنى صدمة انهار كل شيء لدى المتعلق، ومات قبل أن يموت!
ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا، فقد بيّن لنا خطورة التعلق الذي لا يريده سبحانه وتعالى خوفا علينا من تبعاته، فالمتعلق المجنون لا يمكن أن ينتج إنتاجا جيدا لعدم بلوغه مرحلة التوازن العاقلة في الحياة.
ويروي لنا التاريخ الذي يعيد نفسه دائما كثيرا من القصص التي تحوّل فيها الأشخاص إلى مجانين ومرضى حينما لم يرفعوا مناعة مشاعرهم، ولم يبنوا حصون الدفاع في قلوبهم "الرهيفة" التي تخفق من أول نظرة، وتذوب من أول كلمة، وتضيع من أول لمسة!
وبسبب هذه القلوب السريعة الذوبان يعمى أهل التعلق عن بقية الخيارات في الحياة، ويذهلون عن أنفسهم، وتغيب عنهم شمس الوعي، لتضيق عليهم دائرة الحياة الكبيرة فيصبح ما تعلقوا به إنسانا كان أو شيئا من أشياء الحياة هو الوحيد الذي يرونه في حياتهم التي تصبح مقاسة في السعادة والشقاء عليه!
وكما منحنا الله هذا القلب العاشق، منحنا أيضا مكابح العقل التي توقف جنوننا، وتكبح جماح صبابة أفئدتنا، وإلا وقفنا أمام حتمية نتائج الابتلاءات الربانية -بالنقم والنعم- التي يبتلي فيها الله سبحانه وتعالى الإنسان غالبا فيما يحب تطويرا أو تطهيرا له، فكلما تعلق أكثر ابتلي بفقد مرير تبقى آلامه طويلا بحسب تعامل الشخص مع تبعاتها.
وهي دعوة ربانية إلى زراعة حب الله سبحانه في القلوب كما قال في سورة آل عمران: (قل إن كنتم تحبون اللـه فاتبعوني يحببكم اللـه ويغفر لكم ذنوبكم واللـه غفور رحيم) (31)، ودعوة نبوية كما قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" (رواه البخاري).
ومن يتأمل بين طيات هذه الدعوات سيجد الدعوة للحب السامي الذي يتجلى في إخلاصه لله سبحانه وتعالى، وحب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في مجمل دعوات أخرى لترك التعلق بالدنيا وشهواتها، والاكتفاء بالاستمتاع بمباحات الحياة من دون إفراط أو تفريط.
ومن ذلك الدعوة الربانية في القرآن الكريم لتذكر الموت الذي يخفف من تعلقنا بشهوات الحياة حينما يذكّرنا بالفقد الحتمي، فقال سبحانه في سورة النساء: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (78).
وكذلك الدعوة النبوية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هادم اللذات"، يعني الموت (أخرجه الترمذي)، فتذكّر الموت والآخرة من البواعث الحقيقية على تحسين العلاقة بيننا وبين الله حتى نلقاه سبحانه وتعالى بعد أن يفنى كل شيء في هذا العالم كما وعد بذلك سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: (كل من عليها فان (26) ويبقىٰ وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (27).
وكما جاء في الأثر:
"اخشوشنوا، فإن النعمة لا تدوم".
فلا شيء يبقى إلى الأبد، ولا يمكن أن يضمن أحد لأحد بقاء للأبد، فعلى الإنسان أثناء استمتاعه بمباهج الحياة أن يضع لجميع التوقعات احتمالاتها الممكنة والمستحيلة.
ويسعى في بناء حصونه الداخلية التي تجعله أكثر صلابة في مواجهة متغيرات الحياة العاطفية والاقتصادية، وملحقات ذلك من جميع الأشياء التي يمكن لتعلقنا بها أن يذهب بنا إلى نتائج لا تحمد عقباها.
ولأننا مهما فعلنا سنبقى في دائرة القصور البشري؛ كان "الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره" من ضمن أركان الإيمان بالله سبحانه وتعالى التي لا يتم إيماننا إلا بها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.