المظاهرات والاعتصامات المتواصلة التي اندلعت في سريلانكا قبل 3 أشهر واشتدت وبلغت ذروتها في 9 يوليو/تموز 2022 كما لم تسبق مثلها ثورة في تاريخ سريلانكا إثر الأزمات الاقتصادية والسياسية التي ضربت البلاد منذ أن تولى غوتابايا راجاباكسا، حققت بعض الأهداف التي رسمت لنفسها، ومن المتوقع أن تستمر الاحتجاجات المتجددة حتى تتحرر الجزيرة من الاستبداد السياسي وتحدث تغييرا جذريا شاملا في المنظومة السياسية.
لقد سقطت المقار الحكومية الأساسية -كالمجمع الرئاسي وقصر رئيس الوزراء ومحطات التلفزيون- تحت أيدي المتظاهرين الغاضبين، وتسارعت الأحداث كفرار الرئيس في طائرة عسكرية إلى المالديف ثم إلى سنغافورة وتفويض صلاحياته لرانيل ويكريمسينغه وإعلان رئيس مجلس النواب عن تعيين رئيس الوزراء رئيسا للبلاد بالإنابة، مما أدى إلى تفاقم غضب المحتجين والشعب بأكمله، وذلك لأن ويكريمسينغه هو الآخر من المطلوب رحيلهم عن الحكومة إلى البيت. وكان هناك أعضاء بارزون من عائلة راجاباكسا ما زالوا في البلاد مستعدين للهروب من قبضة الشعب والقانون. ويسجل التاريخ كل ما سبق كإنجازات تاريخية للشعب السريلانكي.
هذه الأحداث الدرامية المتسارعة التي اندلعت ما بين 9 و13 يوليو/تموز، باتت ذات أهمية غير معهودة، حيث تمت الإطاحة بالعائلة السياسية التي حكمت سريلانكا أكثر من 15 عامًا من السلطة، من خلال حركة احتجاج سلمية متواصلة من الشباب الجامعيين وأصحاب الديانات والمواطنين العاديين. ويمكن القول إنها أزالت السرطان الرهيب الممثل في هيمنة عائلة راجاباكسا التي كانت تسيطر على النظام السياسي بأكمله في سريلانكا. ومع ذلك، يجب ألا تغيب عن الذهن الحقيقة الظاهرة أن الأزمات لن تنتهي في سريلانكا بفرار الرئيس وخلعه من السلطة واختيار رانيل ويكريمسينغه رئيسا جديدا.
ماذا حدث في حكومة راجاباكسا؟
قال الباحث المشهور والناشط السياسي الكبير ويكتار أيوان إن السماح لمتهم بارتكاب جرائم بشعة مثل غوتابايا راجاباكسا بخوض الانتخابات الرئاسية، نفسه يدل على خلل في المنظومة السياسية، كما تدل الطريقة التي أطيح بها بالرجل من منصبه مدى التفشي العميق للفساد والقمع في النظام السياسي.
وكانت نوعية غوتابايا راجاباكسا الشخصية معروفة لدى الناخبين عندما تم انتخابه في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. وخلال فترة عمله سكرتيرا لوزارة الدفاع، اتُّهِم بارتكاب عدة جرائم، بما في ذلك قتل الصحفيين وخطف النشطاء الاجتماعيين والاعتداء عليهم، كما تورّط في جرائم حرب مثل حادثة العلم الأبيض، واتهم بالفساد في شراء العتاد العسكري، واختلاس أموال ضخمة لبناء نصب تذكاري ومتحف لوالده.
وعلى الرغم من هذه المزاعم والوثائق المعروفة لإثبات الجرائم الجنائية وفضائح الفساد، منح 69 مليون سريلانكي هذا الرجل تفويضًا غير مسبوق ليصبح الرئيس التنفيذي للبلاد، ثم مُنح حزب شقيقه "سريلانكا بودوجانا بيرامونا" تفويضًا كاملاً في أغسطس/آب 2020 لتغيير الدستور ومنح الرئيس المزيد من السلطات التنفيذية. لم يكن غوتابايا راجاباكسا دكتاتورا استولى على السلطة بالقوة، لكنه مُنح السلطة على طبق من الذهب بموافقة ودعم غالبية الناخبين، ثم أصبح دكتاتوريا.
قامت حكومة راجاباكسا على العنصرية السينهالية ضد المسلمين والبوذية المتطرفة والعداء العرقي والديني، وسلسلة من الانفجارات في يوم عيد الفصح، ونهب أموال الشعب والحكومة والتخويف. وقد عانت الأقلية المسلمة في حكومته معاناة شديدة باتهامها بالتطرف ومحاولات لإلغاء شهادة الحلال وقانون الأحوال الشخصية الخاص بالمسلمين والمحاكم الشرعية وغيرها من الإجراءات المشددة على الإسلام والمسلمين. ولطالما شيطنت النخب السياسية الأقلية المسلمة في سريلانكا وحرّضت على العداء العرقي والديني للفوز بالانتخابات الماضية.
في السنوات الأخيرة، اتهمت الجماعات البوذية المتشددة -مثل "بودوبالاسينا" (BBS)، والمعروفة باسم القوة البوذية- المسلمين بالتطرف وبإكراههم البوذيين على اعتناق الإسلام، وأثارت الكراهية الطائفية ضد المسلمين باعتبارهم "غزاة يهددون روح الدولة البوذية السريلانكية"، وقامت بحملات متطرفة عديدة -تحت أنظار الحكومة ومباركتها- على الله تعالى نفسه والرسول والحجاب ومتاجر المسلمين وبيوتهم ومساجدهم وممتلكاتهم، وكانت هذه الجماعات ورهبانها المتعصبون يتمتعون بدعم من أعلى مستويات المؤسسات السياسية والعسكرية.
وكلُّ الجرائم التي ارتكبها غوتابايا راجاباكسا وأسرته وأعضاء حكومته يجب ألا تمرّ بلا حساب ومعاقبة، فيجب اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لإحضاره أمام القضاء والعدالة ومحاكمته إما وطنيا أودوليا قبل أن يعلم الناس درسا عمليا في الانتخابات القادمة. ويجب ألا يتفلت أحد ممن تورط في المشاركة في الجرائم، فإذا أراد الشعب السريلانكي أن يتحرك نحو التقدم والازدهار الحضاري، فيجب أن يكون جميع القادة على مسؤولية من معاقبة الجناة على الجرائم التي ارتكبوها.
وفي فترة انتشار كورونا، حظرت حكومة راجاباكسا دفن جثث الناس الذين توفوا بسبب فيروس كورونا، وسط ادعاءات أشاعها رجال دين بوذيون بأن الجثث تلوث المياه الجوفية وتنشر الفيروس، فقررت الحرق الإجباري لجثث المتوفين المسلمين وغيرهم. الحرق القسري لجثة رضيع مسلم عمره 20 يوما أتت بلعنات واسعة على حكومة راجاباكسا، على حد قول بعض أعضاء البرلمان غير المسلمين.
لم تأبه حكومة راجاباكسا بآهات أسرة ذلك الطفل المسلم ولعنات آلاف من الأسر حين أحرقت جثته، واحترقت معها أكباد قلوب كثير من المسلمين الذين لم يتمكنوا من تشييع أحبائهم وصلاة الجنازة عليهم. ولم يحترم راجاباكسا وحكومته عادات وتقاليد وتعاليم إسلامية تتبعها الأقلية المسلمة في سريلانكا، ولم يلق بالا للتحذيرات من عواقب وخيمة لهذا الإحراق ربانيا وإنسانيا، ولم تستجب لنداءات منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية التي رأت في حرق جثث موتى المسلمين وفق طقوس بوذية خرقا صارخا لحقوق الإنسان، وتنكرت للقوانين الدولية وقرارات منظمة الصحة العالمية التي لا ترى في التشييع والدفن خطرا ما دام المشيعون يلتزمون بالإجراءات الوقائية.
ومن جانب آخر، اقتصاد سريلانكا الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على السياحة، تضرر من هجمات عيد الفصح عام 2019، كما تأثر بشدة جراء وباء كوفيد-19، لكن العامل الأكبر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد هو القرارات السياسية الخاطئة لحكومة راجاباكسا وسوء إدارة الاقتصاد وسيطرة عائلته على مرافق الحكومة والوظائف الحساسة والفساد المالي والرشوة المتفشية.
أعلن رانيل ويكريمسينغه بعد توليه رئاسة الوزراء انهيار اقتصاد سريلانكا بالكامل، وعدم قدرتها حتى على دفع مستحقات واردات النفط. وتواجه الدولة أكبر وأسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلال البلاد عام 1948، ويعاني السكّان منذ عدة أشهر نقصا حادا في الطعام والأدوية والوقود والانقطاع الطويل للتيار الكهربائي وتضخّما قياسيا.
وأعلنت الحكومة إغلاق المدارس والجامعات الحكومية، وتأثر قطاع المواصلات بشكل واضح، ولم تتمكن سريلانكا من سداد فوائد تبلغ 78 مليون دولار على سندات دولارية مستحقة الاسترداد في عامي 2023 و2028. من جهة أخرى، يتوقع بنك سريلانكا المركزي ارتفاع معدل التضخم في البلاد إلى 40% خلال الأشهر القليلة المقبلة، في الوقت الذي تكافح فيه البلاد لدفع قيمة الواردات وتخفيف حدة النقص في كل شيء من الغذاء إلى الوقود.
ظهور رانيل ويكريمسينغه في الرئاسة
وبعد صبر على الظلم وصمت على الفساد في حكومة راجاباكسا، قال السريلانكيون كلمتهم في شوارع كولومبو بعد أن ذاقوا مرارة إفلاس دولة الاقتصادي والسياسي، ففر الرئيس المخلوع غوتابايا راجاباكسا وتولى رانيل ويكريمسينغه رئاسة الوزراء، ثم اختير رئيسا باقتراع برلماني في 20 يوليو/تموز 2022. ورانيل ويكريمسينغه ظهر في الساحة مرسخا نفسه كمدافع قوي عن مصالح عائلة راجاباكسا وأطماعها، وهذا يعني استمرار حكم راجاباكسا تحت أسماء مختلفة وخداع الشعب مرة أخرى.
قد داهمت قوات الأمن مخيمات احتجاج ضد الحكومة في كولومبو في ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة، بعد ساعات من أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية صباح الخميس رئيسا تنفيذيا ثامنا للبلاد، وكان هذا أول عمل قام به ويكريمسينغه بمشاركة مئات من قوات الأمن وعناصر الشرطة والجيش في هذه العملية التي تم فيها إخلاء القصر الرئاسي والمعتصمين من أمامه، في حين أنّ المحتجين كانوا قد تعهّدوا بإخلاء المكان بحلول مساء اليوم التالي يوم الجمعة.
وكانت تلك المداهمة خيبة أمل للشعب الذي كان يتوقع منه تشكيل حكومة موقتة متعددة الأحزاب، وإصلاح النظام السياسي وكسب ثقة الشعب والمتظاهرين ومعالجة الأزمة الاقتصادية تدريجيا. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل رانيل قادر على تحقيق آمال الشعب السريلانكي؟
رانيل في الميزان
رانيل ويكريمسينغه زعيم سياسي غير ناجح رغم ما يمتلك من خلفية عائلية سياسية مؤثرة، ووجوده عضوا برلمانيا لمدة 43 عاما، وكان قد عيّن في تلك الفترة بمنصب نائب وزير ووزير وزعيم للمعارضة ورئيس للوزراء 5 مرات، وخاض الانتخابات الرئاسية مرتين وفشل.
هذا الرصيد من الخبرات السياسية الطويلة لرانيل ويكريمسينغه لم يصنع منه إلا زعيما غير ناجح وغير مؤهل لحمل رئاسة البلاد في هذه الفترة العصيبة. إنه لم يسمح قط بظهور قيادة أخرى في حزبه، فكان سببا لفشل حزبه وانقسامه إلى حزبين. ولم يحصل حزبه على أي مقعد في الانتخابات العامة عام 2020، وحصل على مقعد واحد فقط من القائمة الوطنية التي ليست مقصورة على السياسيين المحترفين، وإنما تم إنشاء هذه القائمة لاستفادة البلاد من خدمات المثقفين والأكاديميين والصناعيين وغيرهم ممن لا يرغبون في خوض الانتخابات، أو غير القادرين على خوض الانتخابات لصالح البلاد. ودخل ويكريمسينغه البرلمان من هذا الباب.
قانونية لا أخلاقية
تولي رانيل منصب رئاسة الوزراء والرئاسة المؤقتة للبلاد كان من تعيين الرئيس المخلوع الفار، في وضع مأساوي في ظل رفض الشعب تفويضه وفشله في الانتخابات. وتمَّ اختياره رئيسا من تأييد أعضاء البرلمان من حزب سريلانكا بودوجانا بيرامونا الذي تنتمي إليه أسرة راجاباكسا. هذه الطريقة توصف بأنها قانونية وديمقراطية، لكنها في الحقيقة تعتبر انقلابا دستوريا يحتم على الشعب إصلاح النظام السياسي. ومنذ أن تولى ويكريمسينغه الرئاسة، ما زال المتظاهرون يواصلون الاحتجاجات مطالبين برحيله، لكنه قابلهم بالقمع والعنف والاعتقال واتهامهم ببيع المخدرات واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم، وهذا النمط من السلوك بالتأكيد لا يؤدي إلا إلى مزيد من المشاكل والأزمات.
المخرج من الأزمات
والحل النهائي للأزمة السريلانكية هو تغيير جذري في نظام الحكم الذي مهد الطريق إلى إفساد وفوضى وما وصل إليه من الأوضاع الاقتصادية والسياسية المأساوية. وما دام أغلبية نواب البرلمان الحالي منتمين إلى حزب راجاباكسا "بودوجانا بيرامونا"، فلا يمكن الوصول إلى تحقيق مطالب الشعب الحقيقية. إذن، فالانتخابات الرئاسية والبرلمانية في المستقبل القريب هي التي توصل البلاد إلى برّ الأمان والاستقرار.
سريلانكا تحتاج إلى تغيير كامل للنظام والاستقلال الكامل لجميع أجهزة الدولة الثلاثة: السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية، مع توفير آلية مناسبة لمساءلة عادلة. ويجب أن يضمن النظام معايير تبين الحد الأدنى من المؤهلات وشهادة الكفاءة والأداء للمرشحين لانتخابات جميع المراحل، حتى يتمكن المؤهلون من ذوي القدرة والكفاءة والاهتمام والنزاهة والحماس من الخوض في الانتخابات النزيهة.
وكل هذه الإجراءات المهمة تضمن سير الحكومة السريلانكية المستقبلية نحو الاستقرار والازدهار، على أسس الديمقراطية والتعايش السلمي والتسامح الأمثل والمصالح المشتركة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.