شعار قسم مدونات

عرفة.. عبق التاريخ وأسرار الإيمان

حرارة الشمش لم تمنع ضيوف الرحمن من التسابق لصعود جبل الرحمة - الجزيرة نت
الحجاج يتسابقون للصعود على جبل الرحمة (الجزيرة)

يوم لا كالأيام الأخرى، مهيب جليل المكانة، ينتظره المسلمون في موعده كل عام ليشرق عليهم إشراقته العظمى المستمرة منذ أن بوأ الله لإبراهيم مكان البيت، فيلهج حجاج بيت الله الوافدون من أصقاع الدنيا ملبين ومسبحين، وتتجاوب أطراف وأنحاء العالم الإسلامي مع هذا الصدى الذي يغمر قلوبهم بالأشواق ويذكي في الحنايا ذلك التعلق الراسخ بالبيت الحرام والكعبة ومنى وعرفات وحيث الجموع محرمة {آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا}، فيقفون وقد وحد الحج أزياءهم، وساوى بينهم مشهد أداء المناسك، فكل إلى ربهم راغبون، وما سوى هذه المشاهد لا يملأ عيونهم الآن، فالفرصة مغرية وباب النفحات وصلوا لعتباته في موعد لا يخلف معه الحجاج الإنابة وإراقة العبرات وتلمس الحاجات من الكريم المنان.

وفي كل زاوية وطريق وعلى كل معلم هناك أصالة بها عبق التاريخ وأسرار الإيمان وتراث النبوة، والنسائم المفعمة بكل ذلك تدغدغ مشاعر الحاج وتزيده فرحة واستبشارا، فأي رحلة تضاهي هذا السفر الذي يوصل الأفراد إلى هذه المنابع الثرة والمواقع المليئة بالعظمة، فهنا كان جبريل يتنزل حاملا ألق الوحي وضياء القرآن ليبثه نبي الإسلام في الآفاق، هنا كان النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، وهذه منازل الإسلام الأولى منذ عهد إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة.

وعلى الجبال وذراها الشم يتخيلون مشهدا للصحابة متحلقين أو جموعا من العرب قادمين ليغرفوا من معين الإسلام الذي انبجست عيونه المدرار فلامس زلالها شغاف قلوبهم، فأقبلوا إلى النداء مستجيبين وإلى حضرة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين بهذا النور الذي أنقذ زمام مجتمعاتهم من التيه وكان نبراسا لكل البشرية.

كما أن للحاج أن يقف مبهورا مندهشا أمام تفرد شريعة الإسلام التي تندب المسلمين سنويا للقاء الفسيح وللسياحة الإيمانية الباذخة التي تمكّن من هذه الفرصة الجميلة وتجعلها لزاما متى كان إلى ذلك من سبيل، كما يرى الحاج في القواعد الناظمة للحج سرا لا كالأسرار وعظمة جعلت الحج مؤتمرا عديم النظير في العالم من حيث مغزاه ودوره وإمكاناته ودلالالته.

وشعلة الحج براقة منذ أن أوقدها إبراهيم عليه السلام، وفي كل الظروف تظل البوصلة الموجهة إلى السر الأصل، فحين انطمست الديانة لدى العرب في الجاهلية وكان العالم على حين فترة من الرسل كان الحج الثابت الذي استمسك به الناس، وكانت الجموع تأتي إلى العرب في موعد أداء الحج، كما ظل ظرفه مصونا منضويا في "الأشهر الحرم"، ثم أشرق الإسلام من جديد فاستلم قيادة الحج وبث فيه روحه من خلال التشريع الجديد وقال للعرب "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" فلا فضل اليوم لأحد على أحد ولا لمجتمع على مجتمع في الحج ولا في ما عداه إلا بمستوى الانتساب إلى معاني الإيمان ومقتضياته.

وانتقلت داخل هذا التحول مدونة طافحة من الأشعار وأعراف العرب ذات الصلة بتاريخهم مع الحج، لتأخذ موقعا لغويا وأدبيا في ما يتعلق بتراث الحج إنسانيا، واتخذت بين علوم الإسلام حيزها في الدرس التاريخي والعلمي الخاص بالحج وما يتعلق بمواضع عباداته ومناسكه، وضمن كل ذلك تتجلى المكانة والمهابة التي ظلت للبيت الحرام كما في أشهر نصوصهم:

فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

وقول الشاعر:

 

فلا لعمر الذي مسّحت كعبته

وما هُريقَ على الأنصاب من جسد

..

والمؤمن العائذات الطير تمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد

ثم في الإسلام استمر الخط محتفيا أدبيا بمشهد الحج وتنوعت النصوص المبهورة بمناسك الحج:

إذا هبط الناس المُحصّب من منى

عشية يوم النحر من حيث عَرّفوا

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

أما تلك اللوعة الكامنة في الجوانح لدى المسلمين في مختلف الأقطار تعلقا بالبيت الحرام وربوع يثرب ومكة والحجاز فوجدت كذلك في الأدب متنفسا فريدا لها يعبر عنه قول ابن دقيق العيد:

تهيم نفسي طربا عندما

أستلمح البرق الحجازيا

ويستخف الوجد عقلي وقد

أصبح لي حسن الحجا زيا

بل كأن القصيدة تمكن من الحج شعرا على نحو ما في نص شاعر القرن الثالث الهجري ببلاد شنقيط:

تبادر بالحجيج ورود بدر

ويحدوها الحَنِينُ إلى حُنَيْن

..

قواصد رابغا تبغي اغتسالا

وإحراما لديه وركعتين

..

على باب السلام مسلمات

بتطواف وسعي عاجليْن

..

تناخ لحاجتيْ دنيا وأخرى

هناك فتنثني بالحاجتيْن

..

إلى خيف المحصب رائحات

بكل أشم ضاحي الوجنتين

..

وترجع إن أفاضت لابثات

ثلاث ليال أو ليلتين