"العلم والإسلام"؛ بهذه الكلمات أنهى الرئيس الجزائري بوضياف حياته ومسيرته السياسية قبل أن تطاله يد الغدر وتقتله سنة 1992، ولكن اللافت أن الكلمة الأخيرة كانت "الإسلام" قبل أن يُصاب بطلقاتٍ نارية من أحد حراسه، وذلك أثناء محاضرة كان يلقيها ويقول فيها إن تطور الأمم والدول يقوم على العلم والإسلام. طبعًا هذا الكلام لن يعجب كثيرا من العلمانيين الذين يرفعون شعار العلمانية على أنها الحل والخلاص لحالة الجهل الذي تعيشه بلادنا والذي أدى إلى خروجنا من ركب الحضارة، وهذا يعود أيضًا إلى انبهارهم بحضارة الغرب التي تطورت بسبب العلمانية التي أخرجت أوروبا من عصر الجهل والتخلف والكهنوت إلى رحاب العلم والفلسفة والتقدم.
ولكن قد غاب عنهم أن الموجة الثقافية والعلمية التي غيرّت حال أوروبا كانت نتيجة انتقال العلوم من الشرق إليهم، فإن أوروبا على سبيل المثال لم تعرف أرسطو وسقراطا والفلسفة اليونانية إلا من خلال ابن سينا وابن رشد، ولكن مع الأسف استفادت أوروبا من ذلك التراث الغزير والغني وراكمت عليه وبدأت عصر النهضة وبدأت تلفظ الجهل والظلام الدامس وأنتجت الفلاسفة والمنظرين وصنعت حالة من التنوير، أما العالم الإسلامي فقد تنكر لذلك التراث وبدأ مرحلة الانحطاط وعلقنا في التفسير السطحي للنصوص غير مبالين بروحها والأحاديث التي تحث على العلم والتطور، فالإسلام يقوم على عمودين: "التوحيد والتجديد".
أتذكر أنني في إحدى المرات كتبت أن الإسلام يقوم على التوحيد والتجديد، وقتئذ بدأت حملة من الهجوم وتعرضت لانتقاداتٍ كأنني حرّفت الدين وأن ما كتبته ليس من الحديث أو القرآن وأنه ابتداع، ولكن قد غاب عن كثيرين أن الفقه وعلم الكلام والتفسير والتأويل ابتداعٌ بشري إلا ما أُخذ من سيد البشر؛ فهو لا ينطق عن الهوى، ولكن الابتداع يقوم على الاجتهاد الذي يقرّه رسول الله صلى الله عليه سلم من خلال حديثه مع معاذ بن جبل حينما ولّاه على اليمن، فليس من الضروري أن يكون كل ما نقوله نابع من قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن من الضروري أن يكون ما نقوله لا يخالف "قال الله" و"قال الرسول"، وهذا هو الاجتهاد. فاليوم تعاني الأمة من استنساخين: الأول هو استنساخ الماضي واستحضاره من دون أي تجديد، والثاني هو استنساخ تجارب الأمم الأخرى وتطبيقها من دون أي تعديل.
ولكن ماذا يعني أن الإسلام قام ويقوم على التوحيد والتجديد؟
التوحيد
مع بدء الدعوة ونزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه سلم، كانت الجزيرة العربية تقوم على الوثنية وعبودية الأصنام وصناعتها من أجل عبادتها، وكان بعضها من تمر، فجاء الإسلام يفكك هذه المنظومة المعقدة والصعبة، أما اليوم فإننا نعتقد أنها كانت مرحلة سهلة التنفيذ كوننا موحدين ونوحد الله ونقرّ بالشهادتين، ولكن السؤال: هل فعلًا نحن نوحد الله ولا نشرك به شيئًا؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، هناك سؤال آخر يقول: هل التغيير عملية سهلة؟ هل رسالة التوحيد سهلة؟ إن أردنا أن نغير مكان كنبة في منزلنا من مكانٍ إلى آخر كم تحتاج من وقت كي نتخذ القرار؟ لا شك أنها ليست صعبة ولكنها من الناحية الاعتقادية والفكرية مهمةٌ صعبةٌ جدًّا، فما بالك بفكرة تقوم على كسر الكهنوت القائم وكسر فكرة الأصنام قبل كسر الأصنام ذاتها؟ هذه مهمة جاء بها القرآن المكي الذي كان ينذر الناس بكلام قوي، كما أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة كانت لتوضيح معنى التوحيد، فكانت البعثة قبل الهجرة تقوم على تعليم الناس جملة واحدة ولكنها تحتاج إلى مجلداتٍ كي نفهم روحها ومضمونها وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله. عودةً إلى السؤال: هل نحن نوحد الله توحيدا حقيقيا؟ التوحيد يعني أن لا أحد يشارك رب العزة في الملك والألوهية، وهو الإيمان بأنَّ الله واحدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريكَ له في مُلكه وتدبيره، وأنّه وحدَه المستحقّ للعبادة فلا تُصرَف لغيره، أما اليوم بسبب التغييرات والتبدلات التي طرأت على المجتمعات، فأصبحنا نشرك الله بكل شيء، فنحن نمجد الزعيم والرئيس والنائب والوزير والمنصب والكرسي، فهنا نكون قد ضربنا العمود الأول ولم نلتزم به.
التجديد
أما التجديد فهو عملية متوازية مع التوحيد، فلا توحيد من دون تجديد ولا تجديد من دون التوحيد، طبعًا هذه الكلمة تثير استفزاز بعض الإسلاميين وتتهم من يحمل هذا الشعار بأنه مستغرب ويمشي مع الموجة الغربية التي تطالب بالإسلام الديمقراطي والإسلام العلماني والحداثي، وكل هذه المصطلحات ذكرتها شيريل بينارد في كتابها "الإسلام الديمقراطي المدني" ولكن علينا أن ننتبه إلى مفهوم أساسي هو أنه لا احتكار بالمطلق في عالم المصطلحات، فإن رفعوا شعار التجديد فهذا لا يعني أن نعادي التجديد من مفهومنا ومن منظارنا نحن وليس من مفهومهم ومنظارهم، فعلينا أن نفصل الفعل عن الفاعل والشعار عن حامله. نعم التجديد ضروري، ولكن التجديد المطلوب ليس في الأصول والقطعيات، إنما في الفروع والظنيات والاجتهاد والخطاب، فلا يمكن أن تبقى الأمور على ما هي عليه اليوم، وهذا ما أشار إليه الشيخ الغزالي الذي نادى بالفقه الذكي، وهو الفقه الذي يراعي التغيرات الاجتماعية والسياسية والانسياق مع تلك المتغيرات السريعة، وهذا هو جوهر الإسلام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الله على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، فعلى سبيل المثال سيارة الـBMW هي سيارة متطورة وجميلة وقوية، ولكن هذه السيارة على الرغم من أن مواصفاتها عالمية فهي تحتاج إلى خطة تسويق حديثة من أجل البيع، فإذا كانت الدعاية التسويقية سيئة فسوف تخسر الشركة وتذهب مواصفات السيارة هباءً منثورًا، هذا هو حال الإسلام؛ فهو يحتاج إلى دعاة أذكياء نشيطين متكلمين ومتحدثين قادرين على أن يحدثوا فرقًا في مجتمعاتهم، اليوم لا بد أن يتبدل الخطاب وأن يتجدد لا أن يتبدّد، خطاب يعيد الجوهر ويعود للأصول ويحافظ على القطيعات ويضع قراءة معاصرة في الظنيات والفروع، يجب العودة إلى روح النصوص، فالإسلام نظام متحرك ديناميكي يتفاعل ويتغير ويتكيف، فإن الكون منذ نشأته في حالة حركة دائمة وهناك قوانين تسيّر تلك الكواكب، فالكون هو المظهر الـMacro، وأما الإسلام فهو الـMicro للحالة الإنسانية والبشرية، فالحالتان متسقتان مع بعضهما، فعندما لم يتسق المسلم مع الحالة الكونية أُصيب العالم الإسلامي بالتعب والإرهاق والتراجع على جميع المستويات، هذا الكون الكبير هو انعكاس كبير للحياة الإنسانية الصغيرة، فإن الحركة الإنسانية المتجددة يجب أن تكون على شاكلة التغيير الكوني وتبدله وحركته.
ليست المشكلة في الإسلام، إنما المشكلة في المسلمين الذي اعتقدوا أنهم من الموحدين الخُلّص، وأن الإسلام جامد غير متطور، فلقد لخص الرئيس الجزائري مشهديه "التطور والتقدم" بـ"الإسلام والعلم"، فالإسلام لا يعادي العلم والعلم لا يناقض الإسلام.