هذا المقال تكملة لسلسلة مقالات كنت قد بدأتها أشرح فيها مفهوم الخط الثالث كفلسفة تنظر إلى المجتمع والسياسة والإنسان والفكر والميتافيزيقيا، وفي هذه المقالة سوف أتطرق إلى مفهوم التناقض وضرورته الإنسانية والفلسفية والفكرية، فإن الوعي المتدني بسبب الموروثات والثقافات والمعرفة المشوهة تحول ذلك الوعي إلى حالة اللاوعي الذي نعيشه منذ نعومة أظافرنا.
من أحد الموروثات هو أن التناقض هو أحد الشرور المطلقة وهو من الأسس التي أدت إلى تفتيت المجتمع، ابتداء من الفرد مرورا إلى مؤسسة الزواج وصولا إلى المجتمع الإنساني وثم المجتمع السياسي. فهل التناقض هو أحد الشرور؟ أم أنه سيرورة للإبداع والإنتاج الخلاق؟
يطرح الفيلسوف الألماني هيغل جدليته الخاصة التي تقوم على ثلاثية معقدة، الطريح والنقيض والنتيجة، فالطريح هو المشكلة والموروث الثقافي والتقاليد البالية وغيرها من اصطفافات فكرية أدت إلى خلق مجتمعات مؤدلجة ومعلبة منذ نشأتها، فهذه الأدلجة جعلت الدوغماتية سمة المجتمع الذي يعادي ديمقراطية المعارف وتنوع مصادرها، كل هذا يعود إلى الخوف من التناقض والاختلاف، ولكن السؤال، من أين يأتي جمال الطبيعة ونقاؤها؟ من أين تأتي الحيوانات وتتكاثر؟ كيف نولد الطاقة الكهربائية؟
كل ذلك الإنتاج هو نتيجة التناقض المادي الحتمي ضمن البيئة الواحدة والبيئات المتعددة أيضا، إن اختلاف الجنس بين الذكر والأنثى وعملية التزاوج أدى إلى الإبداع من خلال ولادة وإنجاب الأطفال، وهذا سببه ذلك التناقض من الناحية السيكولوجية والعضوية والنفسية والفكرية، حيث إن الإنسان نفسه هو متناقض بحد ذاته، فالأنثى تحمل في طياتها خصائص أنثوية والذكورية والعكس صحيح أيضا.
أما في المجتمع الإنساني فلا مهرب إلا بتكريس مفهوم التناقض الاجتماعي الذي يجب أن يفهم بطريقة تشريحية كما يشرح ميشال فوكو الخطاب السياسي كي يفهمه ويحلله، ولكن التناقض الطبقي أو ضمن السلطة يؤدي إلى صراع يكاد لا ينتهي ونتائجه وخيمة على المستويين السياسي والاجتماعي، ولكن التناقض يجب أن يكون ضمن المجتمع السياسي والفلسفي والفكري الذي سوف يؤسس لحالة إبداعية.
كي نشرح الأمور أكثر ونبتعد قليلا عن الفلسفة السياسية، على سبيل المثال إذا هناك فريق ليبرالي وفريق محافظ ضمن المجتمع والبيئة الواحدة، سوف يتولد صراع كي يثبت كل طرف مدى صوابية طرحه الفكري والسياسي، فيقوم بتعزيز موقفه من خلال الابتداع في الطروحات والحلول العملية، والطرف الآخر سوف يقوم بالخطوة نفسها، هكذا يتحول المجتمع المنغلق فكريا والمؤدلج إلى حالة من التنافس والصراع الفكري الذي يساهم في تعزيز المعرفة ويؤسس مجتمعا متنوعا ومتنورا وقادرا على أن يتقبل الاختلافات والخلافات وتحويلها إلى حلبة من الصراع الفلسفي والفكري.
لا يقوم أي مجتمع سليم إلا من خلال جدلية التناقض، ولكن ذلك التناقض يجب أن يتسق معه القيم والأخلاقيات الكونية في أي بيئة أو مجتمع، كي لا تتحول تلك الجدلية إلى صراعات دامية كما حصل في الجدلية الماركسية التي تقوم على صراع الطبقات وتكريس ديمقراطية البروليتاريا وتدمير البرجوازية، ولكن جدلية الخط الثالث تقوم على التنافس المقيد من القيم والأخلاق، وهذا التنافس سوف يؤدي حتما إلى تعددية مجتمعية سليمة فكريا وفلسفيا، مما يعد ضروريا في مجتمعات متنوعة من الناحية الطائفية والهوية وغيرها من اختلافات عميقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.