وجد المغرب الأقصى نفسه في مواجهة كبار أوروبا منذ السقوط المدوي في حربي إيسلي (1844) وتطوان (1859)، وتعزز الضغط الخارجي بدءا من مرحلة الحسن الأول، حيث استفحلت ظاهرة الحمايات القنصلية، وتدخل الأجانب في الشأن القضائي والإداري والسياسي للبلد، وتوسعت دائرة الشروط على المخزن ولا سيما عندما تولى العرش المولى عبد العزيز، ثم جاءت مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 لتجهز على السيادة الترابية والسياسية للملكة الشريفة وسلاطينها.
اتفاقيات وتسويات ممهدة للاحتلال
وبموجب اتفاق 1904 بين فرنسا وإسبانيا، شرعنت هته الأخيرة لنفسها احتلال الشمال المغربي، معززة موقعها على طول الشريط المتوسطي للمغرب، بعد أن استحوذت على أجزاء من ترابه منذ 1668، وتسللت إلى أجزائه الأخرى أواخر القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين اندلعت مقاومات عديدة ضد الاستعمار الإسباني -المبكر- في ظل ضعف السلطة المركزية وتراجع مقدرات "المخزن" عن التصدي للمستعمر، وقد أطلق عليها الأستاذ علال الفاسي حالات "الدفاع الإقليمي"[1] الذي ستشهده مناطق الريف والأطلس المتوسط والأطلس الكبير والجنوب الشرقي والصحراء.
من مقاومات الشريف أمزيان إلى معارك ابن الخطابي
شكّلت جغرافية الريف مجالا لمقاومات ومعارك عديدة، عدّ المؤرخون منها: معركة "سيدي ورياش" سنة 1894، ومعارك المجاهد محمد أمزيان فيما بين 1909 و1912 التي ناهزت المئة، واستشهد في إحداها وهي معركة "تكرمين"[2]، لتستمر المقاومة تاليا مع القاضي الوالد عبد الكريم الخطابي[3] الذي أيس من وعود السلطات الإسبانية بتحديث وتطوير المنطقة، فثار ضد الغزاة، متمما سلسلة الجهاد، إلى أن ارتقى شهيدا في معركة "تافريست" سنة 1920، فتسنم قيادة الثورة الولد النجيب، خريج القرويين وصاحب السيرة الحسنة في بني قومه، والخبير بمواطن قوة وضعف الطرف المستعمر، الرجل الذي سيدخل التاريخ المغاربي والعربي من باب الانتقال من القبيلة إلى الوطن، ومن ضيق الاستعمار إلى رحابة الانتصار في أكثر من معركة[4]، لعل أبرزها وأخلدها معركة "أنوال"[5] التي جرت وقائعها يوم الجمعة 23 ذي القعدة 1340 الموافق 21 يوليو/تموز 1921؛ إنه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، سليل الأسرة الخطابية المجاهدة، والحلقة اللامعة من سلسلة المعارك اللاهبة ضد الاستعمار في القرن العشرين.
أدبيات حرب التحرير الريفية مكتوبة بمختلف لغات الدنيا، ويحتفى بها وطنيا ومحليا ومغاربيا، إلا أن معركة أنوال الشهيرة تعد بحق مدرسة متفردة في التضحية والكفاح والبطولة، وصفحة مكتوبة بمداد المروءة والشهامة، أبانت لمن عاشوا وقائعها، وأولئك الذين وصلتهم أصداؤها، ونحن الذين قرأنا عنها؛ أن الاستعمار نمر من ورق، حينما يكون الشعب سيد قراره، على رأسه زعيم صادق مقدام ذكي، بمشروع وطني واضح وتخطيط محكم، تتجسد فيه تكاملية فريدة بين العروبة والإسلام، بين المحلي والوطني، بين الأمازيغي والعربي، وأن الإرادة الجماعية الصادقة تصنع المعجزات.
أنوال.. مشروع الانتقال من القبيلة إلى الوطن
ما بين نهر أمقران وجبل غرغيز، اتسعت رقعة مناصري الأمير ابن عبد الكريم، وشاع صيته قائدا مجاهدا اجتمعت عليه الكلمة، وتوحدت تحت رايته الجهادية قبائل الريف وغمارة وجبالة[6] وإن كانت قبائل جبالة (متيوة البحر، بني سميح، بني رزين، بني بوزرا، بني منصور، بني خالد..) انضمت بشكل كامل إلى الحركة الخطابية -بعد 3 أيام من انتصار الأمير في أنوال، بفضل نشاط القائد المجيد أحمد الحزمري احريرو، وقادة آخرين غيبهم التاريخ الرسمي، نذكر من بينهم: الهاشمي الحساني، محمد كرطيطو، القايد سلام، اليزيد بن صالح، محمد بن عمر حميش- التي دخل بها عصرا جديدا بروح وخطو جديد متسلح بالثوابت التي يحتضنها المجتمع والمقومات التي تحيا من أجلها الأمة المغربية، فنصبته فراسة الشعب زعيما سنة 1921، فخاضا معا -الأمير والقبائل- معارك صغرى طرد إثرها الإسبان من موقعي "أبران" و"اغريبن" شرقي الحسيمة، كانت مقدمة الانتصار في معركة أنوال الكبرى، الفاصلة في تاريخ النزال العسكري بين قوات الاحتلال التي تكبدت خسائر مالية ولوجستية وعددا من الجنود قدر بحوالي 19 ألفا بين أسير وقتيل وجريح، وانعكاسات سياسية حادة في الداخل الإسباني، فيما صار جيش التحرير الريفي رمزا للتحدي والانتصار.
أتى محمد بن عبد الكريم الخطابي على قدر، في ظرفية زمنية دقيقة عنوانها شيوع الروح الانهزامية وطغيان القبلية المتفرقة ووجود استعمار على الأرض، ومن قلب زمن "الانهيار" جاء الخطابي مبشرا بالنهوض ومحققا الانتصار، ومرتفعا بالفكر والتفكير السياسي المغربي وروح الاجتماع المدني بتعبير غوستاف لوبون من مستوى القبيلة إلى أفق الوطن، متلافيا خلق الأعداء الإضافيين وتعدد الجبهات، وجاعلا من الشمال المغربي مقبرة الجنود الإسبان والجنرالات الكبار أمثال "سلفستري" و"نافارو".
لقد أعطت موقعة أنوال بعدا دوليا ومغاربيا لحركة التحرير الخطابية[7]، استثمره ابن الخطابي لصالح تعزيز المقاومة، بنيات ومؤسسات وقبائل ووسائل، ودفعه لسن إستراتيجية المقاومة الموسعة جغرافيا وقبائليا، واعتماد إصلاحات في أوساط القبائل لتقوية الجبهة الداخلية، وإقامة إدارة ممركزة في أجدير، واستكمال معارك التحرير ضد العدو، وبناء جسور الاستفادة البراغماتية مع فرنسا في المغرب والجزائر، حيث تمكن من شراء الأسلحة، وتزويد المجاهدين بالمؤن وإدخال المواد المختلفة للبوادي والقبائل. وأسند الأمير مهمة تدبير أمور الأسرى والتفاوض مع الجنرالات الإسبان إلى السيد محمد أزرقان، والإشراف على إدخال الأطباء الأجانب إلى التراب الريفي، كما بقي في أجدير طوال مدة سفر الأمير وأخيه امحمد، يباشر أمور القيادة العليا مع "القيام بأمور سياسية هناك" بحسب تعبير الفقيه السكيرج في كتابه "الظل الوريف في محاربة الريف"[8].
وفي مرحلة لاحقة، قام محمد أزرقان بزيارة الجزائر المستعمرة سنة 1922، ثم فرنسا في نفس السنة رفقه حدو بن حمو الأكحل، حيث اجتمعا بشخصيات فرنسية على رأسها الجنرال ليوطي الذي كان وقتها يخضع للعلاج في باريس. وفي الرسالة التي بعث بها أزرقان إلى الأمير ابن عبد الكريم من مدينة مرسيليا المؤرخة بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 1922 حسبما أورد الباحث محمد خرشيش في مؤلفه[9]، نتعرف على النشاط الدبلوماسي لمبعوث القيادة الريفية والحفاوة البالغة التي استقبل بها في فرنسا وأصداء أنوال في أوساط النخبة والمثقفين والساسة.
لم يكن لهذا الانتصار الكبير أن يدفع المجاهدين للركون إلى لذته، ولا الانتشاء به، كونه لم يكن في تقديرهم سوى لبنة جديدة في صرح المقاومة، ينضاف لسجل الانتصارات العديدة التي خيضت على تلك الأرض منذ مطالع القرن العشرين. إنه انتصار ضخ دماء الكرامة والشهامة في عروق القبائل والمكافحين والمغاربة الأحرار، الذين رأوا فيه جرعة إيجابية لاستئناف الكفاح المسلح في الأطلس المتوسط والصحراء ومنطقة تافيلالت، ورأت فيه الحركة الخطابية فرصة؛ يجب استثمارها، وذلك ما كان، حيث واصل الأمير ابن عبد الكريم كفاحه المرير ضد الاحتلال الإسباني إلى متم سنة 1924، ثم ضد الاحتلال الفرنسي لاحقا (13 أبريل/نيسان 1925)، والذي انتهى بشنّ تحالف عسكري غاشم ضد الحركة الخطابية، وخوض حرب غير متكافئة، اضطرت الأمير للاستسلام حقنا للدماء.
المعركة الماجدة والذكرى الخالدة
إنّ معركة أنوال، وسياقاتها السابقة عليها، وتأثيراتها الإيجابية اللاحقة، وأصداؤها الدولية والوطنية، ستظل مفخرة تباهي بنا ونباهي بها، لأن أنوال أكبر من مجرد معركة؛ إنها طريق التحرير، نهج في الانتقال من القبائلية العشائرية المشرذمة إلى التحالفية القبائلية الموحدة على أرضية مشروع التحرير، درس من دروس القيادة الديمقراطية ذات المصداقية والمشروعية.
أنوال صفحة ناصعة في جدار بطولات أجدادنا، وكل عام وهي خالدة فينا، وأميرها قائد متجدد الحضور في ضمائرنا، وكل عام ونحن مغاربة أحرار، محبون للحرية والتحرر، محافظون على استقلال الوطن، أوفياء لمحطات مضيئات في تاريخنا، حماة لذاكرتنا الوطنية المشتركة، وأكثر برورا برموزنا وقادتنا ومناضلينا، وسعيا لبث قيم المقاومة والتضحية والفداء في صفوف الناشئة الصاعدة.
مراجع:
- (الفاسي) علال: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ص: 116. "معملة المغرب"، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الرباط، 1989، ص 3754.
- (المساري) محمد العربي: "محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن"، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012.
- (خرشيش) محمد: "المقاومة الريفية"، سلسلة شراع، العدد 22، دجنبر 1997.
- (السكيرج) أحمد: "الظل الوريف في محاربة الريف"، الطبعة الأولى 1926، النسخة الإلكترونية. مجلة "الذاكرة الوطنية"، العدد 5، الطبعة الأولى 2003، منشورات المندبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
- مجلة "الذاكرة الوطنية"، العدد 26، الطبعة الأولى 2015، أشغال ملتقى علمي، منشوات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[1] (الفاسي) علال: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ص: 116
[2] مقال: "ظروف استشهاد الشريف محمد أمزيان"، للدكتور بوحسون بغداد، منشور بمجلة الذاكرة الوطنية، العدد 5، الطبعة الأولى 2003، منشورات المندبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[3] عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الورياغلي، سليل أسرة الخطابي من قبيلة بني ورياغل المتوطنة في أجدير بالحسيمة منذ القرن التاسع للميلاد. /انظر: "معملة المغرب"، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الرباط، 1989، ص 3754.
[4] نذكر منها: معركة دهار أوبران، معركة جزيرة النكور، معركة تفريست، معركة سيدي احساين.
[5] يقع مركز أنوال بين قبيلتي بني أولشيك وتمسمان، على تخوم القبيلة الأولى، بعيدا عن موقع اغريبن بحوالي 6 كيلومترات. سبق للقوات الاستعمارية الإسبانية أن احتلته بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 1921، سعيا للوصول إلى قبائل آيت ورياغل، والسيطرة على النكور./انظر: "المقاومة ومعارك التحرير بمنطقة الريف"، أعمال ندوة علمية بمناسبة الذكرى 81 لمعركة أنوال، بتاريخ الجمعة 19 يوليو/تموز 2002، منشورة ضمن العدد 5 لمجلة الذاكرة الوطنية.
[6] لتفاصيل أوفى، يطالع الكتاب القيم للمؤرخ والسياسي الراحل محمد العربي المساري "محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن"، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012.
[7] "ملحمة أنوال؛ دروس في الدفاع عن الوحدة الترابية الوطنية"، مجلة "الذاكرة الوطنية"، العدد 26، الطبعة الأولى 2015، أشغال ملتقى علمي.
[8] انظر: (السكيرج) أحمد: "الظل الوريف في محاربة الريف"، الطبعة الأولى 1926، النسخة الإلكترونية.
[9] (خرشيش) محمد: "المقاومة الريفية"، سلسلة شراع، العدد 22، دجنبر 1997.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.