شعار قسم مدونات

ربع جنيه.. ولكن!

blogs الميكروباص
نادى سائق الميكروباص مرات أن الأجرة 1.5 جنيه بدلا من جنيه وربع الجنيه بحجة ارتفاع سعر البنزين (مواقع التواصل الاجتماعي)

جلست بجواري سيدة وأنا راكبة "الميكروباص" فيما كنت مشغولة بكتاب بين يدي، لدرجة منعتني من التواصل بالعين معها عندما ناولتها 1.5 جنيه للأجرة لتتولى هي مسؤولية إيصالها للسائق، فإذا بها تقول لي "كدة لك ربع جنيه".

كنت نصف واعية لما يجري حولي، وما كان ينبهني هو صوت بعض الركاب عندما علت أصواتهم بعض الشيء وهم يطالبون بباقي الأجرة، وقد انضمت لهم جارتي في الركوب مطالبة بـ"ربع جنيه لنا هنا" على حد قولها، فانتبهت أكثر وأنا أتأمل ما يحدث، فإذا بها تقول لي "لا تشغلي بالك وخليكِ في القراية، وأنا علي أجيب لك الربع جنيه".

رفعت عيني عن الكتاب ونظرت إليها وابتسمت لها ابتسامة عريضة تسللت إلى كل خلايا جسمي، فردت علي بالابتسامة ذاتها، ثم قالت لي "أنت مستغربة، لا تستغربي، إذا كان ربع الجنيه لا يمثل شيئا يذكر لك فالعكس تماما بالنسبة لي".

كنت لا أزال مبتسمة ولم أنبس ببنت شفة، وهي تعيد على السائق "فيه ربع جنيه هنا لنا يا أسطى"، أوشك السائق أن يلتفت إليها ليقول لها "وما لك أنت؟" طبقا لفكر "الأنامالية" وعبارته الدارجة "وأنا مالي" السائدة في أغلب الأحيان، لكنه لم يفعل، فلو فعل لكنت على استعداد للرد عليه إذا وجه لها أي لوم بأن أخبره أنني وكلتها، فقد كنت أقول في نفسي إنني لا بد أن أنصر قضيتها التي كانت تختصر في الإتيان بربع الجنيه في ذلك الموقف.

وقد حدث بالفعل أن انتصرت قضيتها وسلمتني ربع الجنيه، وتبادلنا الابتسامات العريضة -التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات- دون كلام وكأنه انتصار فعلي في معركة، هدأت نفسها واشتعلت نفسي من جراء اجترار مواقف شتى شاهدتها في "الميكروباصات"، تلك المواقف التي تذكرني بقلة حيلتي لافتقاري إلى القوة الخشنة.

وأذكر من بين تلك المواقف: عندما نادى سائق الميكروباص مرات أن الأجرة 1.5 جنيه بدلا من جنيه وربع بحجة ارتفاع سعر البنزين -مع العلم أنها كانت جنيها واحدا قبل ظهور أزمة البنزين (أي زادت بمقدار 50%)- عارضه اثنان من الركاب تبدو عليهما رقة الحال أو لنقل بؤس العيش في صوت خفيض بقولهما "كيف هذا.. إن الأجرة جنيه وربع؟!"، فرد عليهما بكل صلف "اللي مش عاجبو ينزل".

كنت أود مساندتهما وتقديم أي دعم لإيقاف هذا الجشع، لكني أفشل بسكوتي وكتم غيظي من استهانة أغلب الركاب بقيمة ربع الجنيه، الأمر الذي يعزز موقف السائق، فيصر على موقفه بعجرفة شديدة فيخضع الراكب الفقير لما أقره السائق ووافق عليه أغلب الركاب الذين قدموا لي جرعة لا بأس بها من الخزي فأتشربها على مضض حتى أحتمل شتى المواقف المشابهة في الميكروباصات، وفي نفس الوقت أشعر بضعفي وقلة حيلتي لافتقاري إلى القوة الخشنة اللازمة لمواجهة جشع سائقيها.

أذكر أيضا مرات يفرض فيها السائق أعلى قيمة للأجرة من تلقاء نفسه فيتبعه غيره من السائقين بنهم في طلب المال، وأعني بأعلى قيمة للأجرة، مع أن من المتعارف عليه في عرف "الميكروباصات" أن الأجرة مصنفة حسب المسافة، لكن إذا أراد أحد السائقين جمع المزيد من المال ذات صباح أو مساء فرض أجرة موحدة -وهي تلك المستحقة لأكبر مسافة- فإنه يفعل ذلك ولا يعترض أحد من أصحاب القوة الخشنة الذين ما عليهم إلا الاستهانة بقيمة ربع الجنيه، وأحيانا يستهجنون اعتراض الفقراء على هذا الأمر، السائق يفرض وما على الفقير إلا الرضوخ والاستسلام لرأي الأغلبية التي لا تضعه في الحسبان، وإن لم يرضخ صار منبوذا!!

يذكر أنه عندما ارتفع سعر لتر البنزين زادت الأجرة بمقدار نسبة ارتفاع ثمن اللتر وكأن على كل راكب تحمل هذه الزيادة بمفرده على الرغم من أنه لا يستقل الميكروباص بمفرده!! هل تعقل هذه الحسبة؟ أي منطق صاغها؟ إنه منطق جشع سائقي "الميكروباصات" الذي يحكم ولا يتصدى له إلا الفقراء، وهم لا يستطيعون وحدهم.

وبذلك، أدعو أصحاب القوة الخشنة لأن يساندوا الفقير إن شاؤوا ولو بالدفاع عن حقه في ربع جنيه، أو أن يتصدوا لجشع سائقي "الميكروباصات" إن أرادوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.