شعار قسم مدونات

الأرض "بتتكلم" سنهالي

مشهد من الحملات الانتخابية في سريلانكا
مشهد من الحملات الانتخابية في سريلانكا (الجزيرة)

ماذا نعرف عن سيرلانكا؟ عاملات منازل، فيلة، أوراق الشاي، وبعض السياحة.

إذن، نحن لا نعرف عنهم شيئًا إلا ما نراه من ثقبنا العربي؛ "الشعور بالسيادة، والسخرية، وتحسين المزاج، والاستجمام".

في الواقع، إن سريلانكا السمراء أوسع من ذلك الثقب الصغير بكثير؛ سريلانكا رأس القفل الذي يربط بين غرب آسيا وجنوب شرقها، هذه البلاد ناضلت لأجل استقلالها مطلع القرن الماضي على امتداد نحو 50 سنة، ثم خاضت حربًا أهلية بعد ذلك. البلاد التي تنزف لأجل الكرامة والسيادة لا يمكن أن تترك صفحات التاريخ فارغة من دون أن تعطي درسًا لكل الشعوب الخائفة، الجائعة، المرتجفة، العطشى، المستضعفة، المسروقة من قبل طبقات لصوص السياسة؛ أن الشعوب هي من تكتب التاريخ لا ماكينات الإعلام الرسمي المزيّفة.

الجائع ليس بحاجة إلى "إف 35" يقودها حتى يحرر بلاده من الطغاة والفاسدين، وليس بحاجة إلى "دبابات وطائرات أباتشي" و"بي 52″، وعندما يطرق الجوع جدار بطنه لن ترعبه كل القواعد العسكرية الرابضة على أرض بلاده المستعمرة منذ الحربين العالميتين، ولا ابتسامات زعماء الدول العظمى لخادمهم، ولا كلماتهم الدبلوماسية الداعمة والمغمّسة بزبد الكذب. "قطعة قماش، ووزرة، وزنوبة" تستطيع أن تحتل مكان إقامة رأس الدولة في غضون دقائق، وتسحقه تحت الأقدام الحافية المشقّقة من قيظ الظلم ووعورة مسيرة التحرر.

والغريب أن الطغاة كلّهم من دون استثناء لديهم صعوبات تعلّم وبطء في الفهم، لا يتعظون بما يحدث لغيرهم، لا يسدّون ثغرات حكمهم، لا ينتبهون إلى الريح الشعبية التي تهبّ من شقوق حصونهم، بل يزدادون طغيانًا واستخفافًا وسرقة للشعوب، إنهم لا يتعلّمون الدروس بسهولة، ولا ترعبهم مشاهد نظرائهم وهم يهربون بسفن أو مروحيات أو يعدون بالرصاص أو العصي في الشوارع، يبقون يراهنون حتى اللحظة الأخيرة على "حالة بلادهم الخاصة" لينالوا ما ناله من قبلهم؛ الطغاة مثل قبيلة الجرذ، لا يتعظون بدماء من سبقوهم، يجب أن يتعمّدوا بدمائهم في محاولة السرقة الأخيرة.

السريلانكيون، هذا الشعب الفقير المسالم، المنسي عل كتف المحيط الهندي، المهمل بعتمة سمرته بعيدًا عن أضواء البيض، أعطى دروسًا بالغة الأهمية في اللغة "السنهالية" لشعوب الأرض بأكملها؛ أهمّها أنه لا يوجد مؤقت لثوران الشعوب، لا يوجد منبّه تضبطه أحزاب المعارضة أو ذباب الموالاة، يوضع قرب سرير الزعيم، كما أنه كلما زاد الاستخفاف بالأمة تعجّل الخلاص من طاغيها، وكلما زاد الفساد والسرقة والاستبداد كان الانتقام أكبر وأقسى. الطغيان مقدّمة ضرورية للفساد، فلا يمكن أن يفسد الحاكم قبل أن ينصّبه الشيطان طاغية على أمته.

ومن الدروس أيضًا أن عصا القمع كلما غلظت انتصبت ركبة المقاومة وكسرتها، فالشعوب الجائعة لا تمسك قبل ثورتها بالآلة الحاسبة حتى تعرف حسابات الربح والخسارة، الموت في نظرها ربح، والعيش الذليل خسارة، فلو جمع الحاكم أمام قصره أساطيل الدنيا وجيوشها لن توقف مظلوما عن أن يفتك بها ويدخل إلى وكر الضبع ليسحله وينتقم لكل الأفواه الجائعة.

من الدروس كذلك أنه لا يوجد في الدنيا شعب شجاع وشعب جبان، شعب منظّم وشعب غير منظم؛ هناك لحظة فارقة، وظرف موضوعي هو الذي يحدّد موعد قلب الطاولة. الشعب؛ أي شعب عبارة عن ليث صبور وحكيم، قد ينظر بنصف عين إلى بهلوان السيرك ما دام يخدع الجمهور بوجهه الملوّن وأنفه المحمرّ، لكن في اللحظة التي يحاول أن ينال البهلوان من كرامة الأسد أو من مكانته يفترسه بلا رأفة، ولا يترك له أثرًا سوى قبّعته المضحكة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.