نتناول هذا الموضوع مستحضرين كتاب "مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العولمة والإنترنت" للدكتور إبراهيم القادري بوتشيش، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب، جامعة السلطان المولى إسماعيل – مكناس، وعضو اتحاد المؤرخين العرب[1].
ويعَد الكتاب إجابة عن أسئلة حول "النص التاريخي" و"مَسير التاريخ"، وتفاعلا من الكاتب مَع دعاوى وتأويلات تقَدم مبَستَرةَ تارة، وجَبرية تارة أخرى، وحَتمية إقصائية تارة ثالثة، في حق التاريخ وأهله وفاعليه، الأمر الذي استدعاه لإعمال النقد وتقديم الاقتراح الأنسب لتجاوز حالات الانسداد واليقينيات المَغلوطة والتفسيرات الاجتزائية التحيزية للتاريخ والمستقبَل في عدد من المَظان والأطروحات.
يستهل الكاتب مؤلفه ببسط 4 أسئلة إشكالية مفادها:
- هل سيدخل المؤرخ حقبة طَفرَة نوعية على مستوى البحث التاريخي بَعد أن أصبَحت العولمة قَدَرا مقدورا؟
- ما الإستراتيجيات التي سيَنهَجها المؤرخ في التعاطي مع معطيات العولمة؟
- وهل سينجح في ظل وجوده بمجتمع "الملتيميديا"؟
- وأي مستَقبَل لكتابة التاريخ العربي بين ثوابت الأمة، والعالم الافتراضي، وتاريخ القرية الكونية، والاكتساح السريع لتكنولوجيا الإعلام والاتصال؟
ثم يؤكد الكاتب أن ثَمة هاجس فَهم العلاقة بين مستقبل الكتابة التاريخية والبحث التاريخي وآفاقهما مع واقع سيادة العولمة والأنظمة المعلوماتية وشبكة الإنترنت وآفاقهما، وهو ما وَلد فكرة هذا الكتاب.
مستقبَل كتابة التاريخ العربي – الإسلامي في عصر العولمة:
يَنطلق الكاتب من رصد مجمل التحولات والانعطافات التي أفرزتها نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، والتي ستَدخل معها البشرية في أشكال من التنظيم تَعتمد شَبكة الاتصالات وامتداداتها (working net)، وما يصاحب ذلك من إحداث تأثيرات هائلة وجذرية على هوية المجتمعات والثقافات المختلفة.
في المتن من هذه التحولات؛ بَديهي أن "تتأثر الثقافة العربية – الإسلامية برياح التغيير، ومن تحصيل الحاصل أن يكونَ التاريخ العربي – الإسلامي باعتباره جزءا من بنية الثقافة الإسلامية؛ عرضة لهذه التحولات التي تَعصف بالمنظومة العالمية..؛ لذلك نحاول هنا تقديم صورة لما يمكن أن تخلفه العولمة -كنظام معرفي- من آثار على مستقبل التاريخ الإسلامي"[2].
ويتساءل الكاتب عن إمكانات تأثير العولمة الثقافية في مجال التاريخ العربي – الإسلامي؟ وما الظروف التي تؤطر موقفَ المؤرخ العربي في تعامله معها؟ وما الإستراتيجيات الـمستَقبَلية لمواجهتها أو التعامل معها؟
ما بين البحث عن إمكان الإجابة عن الأسئلة، ومحاولة تقديم مقترحات لمجابهة أخطار العولمة وارتداداتها؛ يَعرج الكاتب على استخلاص أبرز التعريفات وإعمال الضبط المفاهيمي لمصطلَحَي (العولمة والعالمية).
ويميز بين المحطات التاريخية لتبلور المفهوم، وكذا لتعريفاته في أكثر من مجال، ومرادفاته (الكَوننة – العولمة – الأمرَكة – الكَوكَبَة)، سَعيا منه لتَلَمس الموقع الذي يَقف فيه المؤرخ العربي عند كتابة التاريخ العربي – الإسلامي، مستَقَبلا، وقدرته على تحديد الموقع السليم تجاه العولمة والعالمية. متوقفا بَعد ذلك عندَ مباحثَ ثلاث تشكل الوحدة المضمونية لهذا الفصل من الكتاب.
موقع المؤرخ العربي في زمن العولمة:
يَرى الكاتب أنَ المؤرخ العربي إزاء العولمة يَقع بين ثنائية (المواجهة والتفاعل)، ولفَهم ذلكَ استدعى منه الأمر تحليل الظرفية التي يَتحرك فيها المؤرخ العربي، والأرضية التي تشكل منطَلَقَه. ونَكتفي هنا بإيراد الملاحظات الآتية:
- تحديات العولمة تفاجئ المؤرخ العربي، في الوقت الذي ما زال لم يَحسم بعد مع مسألة إعادة كتابة فصول مهمة من تاريخه العربي، ولم تحَل إشكالية تَصفية الإرث الاستعماري الـمحرف للتاريخ العربي – الإسلامي.
- يَدخل المؤرخ معتَرَك (المَعَ) أو (الضد) في وقت صارَ الاختراق الثقافي واقعا متَعينا مفروضا، وأضحى اغتراب بعض المؤرخين مألوفا، ومسلكياتهم الاغترابية بادية للعيان.
- طَور الغرب منظومته الاختراقية على مستوى التقانة والمعلوميات والإعلام والنت، ووكالات الأنباء، وصارَ يحقق (عبر القوة الناعمة) ما لم تَعد الحروب والاختراقات الكلاسيكية قادرة على فعله عبر العالم، حتى أضحت الحرب الحقيقية هي حرب "الملتيميديا" (Multimedia)، ومحركات مصادر المعلومات، وفي الوقت الذي أضحى فيه الجندي الأميركي يمتلك حاسوبا؛ نجد المجتمع العربي وبعض المؤرخين العرب لا يزال يعيش على النمطية والتقليد والتخلف الثقافي والاستهلاك السائل لمنتوج الآخر، إن لم يكن يتوفر على حاسوب أصلا (سنة 2000)!
- استَغلت العولمة بقيادة أميركا الفراغ الثقافي الذي عليه المؤرخ العربي، والصراع الذي لا يزال يعيشه مع ذاته لتحقيق هويته ونَظرَته للمستقبل، لتمرير مخططات العولمة الثقافية، وفَرض صيَغ جاهزة تَضطَر المؤرخَ لقبولها.
- تنامي التجنيد الرهيب من لَدن دهاقنة العولمة لكوكبة من المثقفين لترسيخ معتَقَدات وهمية هَدفها تحطيم المناعة الثقافية وشل القدرات الاجتهادية لدى المؤرخ العربي.
- مهمة المؤرخ العربي المتمثلة في المواجَهة تأتي في وقت بالغ الخطورة، وذلكَ ما نَتج عن حرب الخليج من تَشتت وانقسام سياسي ومذهبي وثقافي، لم يَسلَم منه المؤرخون واتحادهم العربي، بحيث أضحى ثَمة اتحادان: واحد في بغداد، والثاني في القاهرة.
تلكم 7 ظَرفيات عامة تؤطر فعلَ ورَد فعل المؤرخ العربي إزاء العولمة وتحدياتها، وتحدد منطَلَق كتابته التاريخية في ضوء واقع مضطَرب.
يرى الدكتور القادري لزوم التطرق لفَحص القيم والمنظورات التي يتأسس عليها التاريخ العربي – الإسلامي، وتلك التي تقوم عليها العولمة، وحالة التأثير والتأثر المتمدد والمتقلص، ويناقشها في المبحث الثاني.
قيم التاريخ الإسلامي وقيم العولمة.. تكامل أم تناقض؟
في الأسس:
- العولمة في مجال التاريخ تَعني الانتقال من البنى القَبَلية والأمة والدولة، إلى تاريخ المجموعات الإنسانية.
- العولمة تعبير عن إرادة الهيمنة وفَرض الأنموذج الثقافي الوحيد، وإقصاء الآخرين.
- العولمة تَهدف إلى إلغاء الصراع الأيديولوجي وتَخفيف التناقضات الاجتماعية والتبشير بالنظام الرأسمالي الأحادي.
- العولمة تَسعى إلى تَسطيح الوعي وإحلال الإدراك مَحَله، والتشويش على نظام القيم، وقَولَبَة السلوك، في أفق تَكريس الاستهلاك المعرفي وتَسريب ثقافة الاختراق[3].
- العولمة تَرسم حدودا غير مَرئية، وبالتالي فهي لا تعترف بالحدود الثقافية.
في القيم والمنظورات:
- منظور الفردية.
- منظور الحيادية.
- منظور إلغاء الفوارق الاجتماعية.
- منظور نَفي الدولة والأمة.
- منظور تَعميق الخلاف بين الثقافتين: التقليدية والعصرية.
- منظور ثقافة الصورة بدَل الثقافة المكتوبة.
- منظور سرعة البث وقوة الشبكات المعلوماتية.
توقعات تأثيرات العولمة في كتابة التاريخ العربي – الإسلامي:
لا يَنفي الكاتب بعض الجوانب الإيجابية لنظام العولمة، وبالأخص تلك التي لها صلة باهتمامات وعَمل المؤرخ، الذي أضحى بوسعه الوصول إلى "أبعد مكتبة في العالم عن طريق شبكة الإنترنت، وأن يَبحَثَ في المواقع التي توفرها هذه الشبكة عن أبرز المواضيع التي تعالجها، أو يتصل بالخبراء الذين يحتاج إلى خبرتهم، كما أنَ ثورة الحاسوب سَهلَت عليه كثيرا مما كان يعتَبَر من قَبل مضنيا وشاقا"[4].
كما يعود المؤلف ليقيم صلة الوصل بين قيم ومنظورات العولمة التي تطرق إليها قَبلا؛ مع قيم ومبادئ التاريخ العربي – الإسلامي والهوية التاريخية الإسلامية، ومَدى تطابق أو تضاد مَنظومة الاتجاهَين.
في الأسس:
- قد يصير التاريخ بدوره مجرد سلعة، خاضعا لمنطق العرض والطلب، محتَكَرا من لَدن جماعات المال والقدرة التقنية، ولذلك سيتعرض مع العولمة لتشويهات وافتراءات وتحريفات وسائل الإعلام والاتصال.
- تاريخ المجموعات الإنسانية الكَونية مجرد وَهم يَسعى لإقصاء الخصوصيات التاريخية لكل مجتَمَع، ويَهدف لجَعل التاريخ العربي يَخضَع لهَوى الأمرَكَة وتوجهاتها، تمهيدا لاحتوائه.
- الوعي جزء من بنية العقل، ولا يمكن دراسة التاريخ العربي دون حضور وعي الدارس أو الباحث، ودون حضوره في البحث نفسه، كعامل مؤثر في موضوع الدراسة.
- إلغاء الصراع الأيديولوجي مَعناه إلغاء تفسير وتأويل الماضي، علما بأن التفسير يشكل في حَد ذاته بنية التاريخ، وإلغاء الأُدْلُوجة[5] بتعبير الدكتور عبد الله العروي يَجعل التاريخ العربي – الإسلامي مَبتورا وناقصا من الناحية النقدية.
في القيم والمنظورات:
- منظور الضمير الجَمعي.
- منظور رَفض تركيع الحس التاريخي.
- منظور حَتمية الصراع/ التدافع الاجتماعي.
- منظور الأمة هي الأصل، والدولة كيان واجب.
- منظور الرابطة الثقافية المتعاونة.
- منظور السير المتوازي بين التراث المكتوب والنظام السمعي – البَصَري.
- منظور الخصوصية والتميز.
بَعد جرد معالم قيم ومنظورات كل من العولمة والتاريخ العربي؛ وإجراء مطابَقة نَقدية على مستوى الأسس والمنظورات؛ يَنتَقل الكاتب إلى وَضع معالم مقترحات للممانعة والتفاعل، دون أن يَنفي اعتبار العولمة "حتمية تاريخية"، إلا أن قِيَمَها تَستوجب من المؤرخ العربي عدم التسليم بحتمية صحتها وصدقيتها وأسسها التي تقوم عليها.
كما ينفي إلصاق تهمَة الرجعية به، أو التنكر للمثاقفة وحوار الحضارات، ولا سيما أن جملةَ ما يقترحه هنا لا يتجاوز كونه إجراء دفاعيا، وحزمة قيم الممانعة والحفاظ على "صحة" التاريخ العربي – الإسلامي، ليس إلا.
وعليه؛ يقترح الدكتور القادري قائمة خطوات وإجراءات تأخذ بالأولويات الآتية:
- تحصين التاريخ العربي -الإسلامي أمام العولمة تَجنبا لسلبياتها.
- إنشاء موقع إسلامي في الإنترنت حول التاريخ العربي – الإسلامي[6].
- تخصيص بنك للمعلومات في مادة التاريخ الإسلامي، وتصنيف الأقراص الـمدمَجَة.
- استغلال شَبكة النت لإقامة ندوات حوارية بين متخصصين تَهم إشكالات التاريخ العربي – الإسلامي.
- إنجاز الدوريات الإلكترونية وجَعلها في متناوَل الباحثين بمختلف اللغات.
- التسريع بتوحيد اتحاد المؤرخين العَرب على أسس جديدة تنطلق من هواجس علمية لا حسابات سياسية.
- خَلق تواصل بين الجامعات العربية – الإسلامية بكل الوسائل التكنولوجية والواقعية، لفَتح حوار جاد حول إصلاح مقررات التدريس الجامعي.
- تأسيس قناة فضائية إسلامية تهتم بحاضر العالم الإسلامي ومستقبَله وماضيه.
- إطلاق مركز عام لدراسة التاريخ العربي – الإسلامي يكون نَواة تحيط بها دوائر مراكز أخرى موزعة في كافة الدول الإسلامية.
- تعزيز سبل الاستفادة من المناهج العلمية العالمية لدراسة التاريخ (المنهج البنيوي، المنهج الكمي – الإحصائي، المنهج المقارن، المنهج الحَولي، منهج مدرسة التاريخ الاقتصادي..).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر
- [1] "أثر الإقطاع في تاريخ الأندلس السياسي من منتصف القرن الثالث حتى ظهور الخلافة"، ط 1992 – "تاريخ الغرب الإسلامي؛ قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة"، ط 1994 – "الإسلام السري في المغرب العربي" ط 1995 – "لحظات تفكير في قضايا عالم مضطرب؛ الهوية، الحوار الحضاري، التنمية وحقوق الإنسان"، 2010.
- [2] انظر: (بوتشيش) إبراهيم القادري: "مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العولمة والإنترنت"، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طـ1، ص11.
- [3] لمزيد من المعطيات حول هذه المسألة، انظر (عابد) محمد الجابري: "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 45، طـ1، 2005.
- [4] "مستقبل الكتابة التاريخية.."، نفسه، ص26.
- [5] انظر (العروي) عبد الله: "مفهوم الأيديولوجيا"، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طـ8، 2012.
- [6] (القادري)، مرجع سابق، ص/ 39 – 40.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.