شعار قسم مدونات

الأحوط أم الأيسر؟

المقصود بالخلاف الاختلاف الواقع بين المذاهب الفقهية ومراعاته بترك قول المذهب والأخذ بالمذهب الآخر (الجزيرة)

في مقطع طريف تسأل المتصلة: "زوجي يطلب مني أن أضع قليلًا من المكياج حين نخرج، ما حكم ذلك يا شيخ؟".

لم تتمالك مقدمة البرنامج نفسها لتسمع إجابة الضيف، فقالت لها بلهجتها المصرية: "طيب حطي شوية، أنا عارفة أنه الشيخ حيقول حرام بس معليش شوية بس".

وبعد جدال حار بينها وبين الضيف المفتي حول حرمة الزينة، بكت وقالت: "لكني أحب أن أتجمل وأخفي معايبي؛ ألم يفت الفقهاء بجواز بعض الزينة؟"، فقال لها: "صحيح، لكنا لا نفتي للناس بهذا حتى لا يتساهلوا فيه، نحن نفتي بالأحوط".

وبعيدًا عن التعليق على المقطع والحكم الشرعي للزينة، ما استوقفني عبارة "نحن نفتي بالأحوط".

فهل صحيح أن واجب المفتي إفتاء الناس بالأحوط والأورع؟ وهل هذا ما يفعله المفتون دومًا؟ وما أصل المسألة؟

الأحوط: هو ما يسمى في الفقه الإسلامي "الخروج من الخلاف أو قاعدة مراعاة الخلاف".

والمقصود من الخلاف هو الاختلاف الواقع بين المذاهب الفقهية، ومراعاته بترك قول المذهب، والأخذ بالمذهب الآخر كما ورد في كتاب "القواعد الفقهية" للزحيلي.

والاحتياط كما عرفه القرافي: "ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس".

ضوابطه:

ولمراعاة الخلاف شروط تكررت في غير موضع، فإن لم تتوفر فلا يراعى الخلاف في المسألة، أسوق منها ما ذكره الزحيلي في كتابه "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة":

  • ألا توقع مراعاته في خلاف آخر.
  • ألا يخالف سُنَّة ثابتة صحيحة أو حسنة.
  • أن يقوى مَدرَكُه، أي دليله الذي استند إليه المجتهد.

وجاء في مجلة البيان في الحديث عن "الاحتياط الشرعي حقيقته وضوابطه" لقطب الريسوني تفصيلات أخرى:

  • ألّا يكون في المسألة المحتاط فيها نصّ.
  • أن تكون الشبهة الحاملة على الاحتياط قوية معتبرة.
  • ألّا يفضي العمل بالاحتياط إلى مخالفة النص الصحيح الصريح.
  • ألّا يفضي الاحتياط إلى مشقة فادحة.
  • ألّا يفضي الاحتياط إلى تفويت مصلحة راجحة.

عمومًا، فإن الأخذ بالأحوط على سبيل الاختيار الشخصي الوَرِع أمرٌ محمود ومطلوبٌ من المسلم إذا كان مراعيًا الشروط والاعتبارات المذكورة سابقًا، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)، فإن اختلّت الشروط أو واحد منها يصبح الأخذ به مذمومًا وقد يؤدي إلى مفاسد عظيمة.

"إن الاحتياط مسلك تُجتنب به الشبهات، ومرجّح عند تعارض الأدلة، ومخصّص لعموم الإباحة إذا ثبت، ولا خلاف في حُسنه بين العقلاء في الجملة، إلا أن الإغراق فيه يؤول في نهاية المطاف إلى الاستدراك على الشرع، واجتراح البدعة المذمومة" (مجلة البيان).

قد يؤدي التمسك بالأحوط تورّعًا إلى مفسدة عظيمة، حينئذ يلحق بالمسلم الإثم بدل الأجر.

"وليس كل احتياط يشرع ويستحب من باب الورع والتنزه عن الشبهات! ذلك أن منه ضربًا مذمومًا لا يلتفت إليه، وهو ما كان مفضيًا إلى محظور شرعي، أو كان من قبيل الوساوس التي تتخذ دينًا وهي إملاء من الشيطان الرجيم، ومن صوره الشائعة: سد الذرائع التي تفضي نادرًا إلى المفسدة، والتنزّه عن الرخص المشروعة، والزيادة في المشروع على سبيل الوسوسة" (مجلة البيان).

فإذن، ما أحوال الإفتاء التي يفتي بها المفتي؟ يذكر الشيخ الحسن ولد الددو 3 حالات لها: فإما أن يفتي بما ترجّح لديه هو، أو يفتي بالمذهب السائد في البلد الذي يستفتي منه المفتي ومحل ذلك قبل انتشار المذاهب والعولمة، أو أن يذكر أقوال العلم في المسألة وأدلتهم فيكون لا له ولا عليه.

من الأيسر إلى الأحوط

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت تتغير بعض الأحكام التي كانت على أصل الإباحة أو الندب عملًا بالأحوط، وسدًّا للذرائع، ونظرًا لفساد الزمان، كما ورد في عدد من الروايات وأشهرها ما ورد في قصة ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حين قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها" قال بلالُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عمر: واللهِ لنمنَعهنَّ -إذًا يتخذنه دغلًا- قال: فسبَّه عبدُ اللهِ بنُ عمرَ أسوأَ ما سمِعْتُه سبَّه قطُّ وقال: سمِعْتَني قُلْتُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعْها" قُلْتَ: واللهِ لنمنَعهنَّ؟! (صحيح البخاري).

ومنها ما ورد في منع ابن هشام طواف الرجال مع النساء، ففي الحديث عن عطاء "إِذْ مَنَعَ ابنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مع الرِّجَالِ، قالَ: كيفَ يَمْنَعُهُنَّ؟ وقدْ طَافَ نِسَاءُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع الرِّجَالِ؟ قُلتُ: أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قالَ: إي لَعَمْرِي، لقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الحِجَابِ.."، والشاهد الأخير الذي أسوقه ما ورد من منع العواتق ذوات الخدور (أي صغيرات السن أول البلوغ) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج للعيدين، وهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في الحديث "لتخرجِ العواتقُ وذواتُ الخدورِ والحُيَّضُ فيشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمينَ" (صحيح النسائي).

ونلاحظ من الأمثلة السابقة أن كلها مما اختصت به المرأة بالمنع وبالأحوطية أكثر من الرجل وهذا المجال هو أكثر ما وقع فيه المبالغة بالأحوطيَّة.

وهكذا كما يقول القرضاوي "وكل جيل أخذ يضيف بعض (الأحوطيات) إلى ما قبله، وقد أدّت كثرة الأحوطيات في الفقه المتصل بحياة الناس إلى تضييق وتشدد لحق بالإسلام منه أذى كثير".

الأيسر أم الأحوط؟

تضافرت النصوص الشرعية التي تحضّ المسلم على اتخاذ التيسير منهجًا لحياته حتى غدا اليسر علامة مميزة يمتاز بها الإسلام، قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ} [البقرة:185]، كما ورد في الحديث: "خَيرُ دينِكم أَيْسرُه".

لكن وردت نصوص أخرى تحض المرء على التورع والاحتياط منها "دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزَّ وجلَّ".

فما ضابط ذلك؟ وأي الأحكام ينبغي فيها الأورع وأيها ينبغي فيها الأيسر؟

تنقسم الفروع الشرعية إلى 3 أنواع كما بيّنها الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى في كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته":

الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح، وهو العبادات المحضة، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك، أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطًا خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ما هو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.

الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط، وهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع ما أمكن.

الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم، ومعيار المصلحة: "هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة".

على أن اليسر يغلب العسر، وأرى -والله أعلم- أنه الأقرب إلى روح الإسلام ومنهجه لتضافر الأدلة على الحض عليه، فعلى المرء أن يجتهد في الموازنة بين الأمرين ما أمكن؛ ففي الحديث النبوي: "إن الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غلبه، فسَدِّدوا، وقارِبوا، وأبشرُوا" (صحيح البخاري)، وقال الشعراني "إن العزيمة والرخصة هما سور الشريعة، فإذا رأيت من مال إلى التشدد في مسألة فقد مال إلى سور العزيمة، ومن مال إلى التساهل في مسألة فقد مال إلى سور الرخصة، ولم يخرجا عما بين السوريين لأن الشريعة لا تخرج عن هاتين المرتبتين".

لكن بعض الناس يتورع عن الأخذ بالرخص ظنًّا منه أن العزيمة دومًا أحب إلى الله تعالى رغم أن الحديث النبوي قد رغب بالترخص حال المشقة "إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته" (مسند أحمد).

وفرق بين أن يتخذ الإنسان من الورع منهجًا ذاتيًّا يحتاط لنفسه وبين أن يفتي لغيره به فضلًا عن أن يلزمه به، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سأل عن أمر إلا اختار أيسر المسلكين ما لم يكن قطعيًّا، وقد نهى عن أن يلزم المرء غيره بما يتورع فيه لنفسه.

أفتان أنت يا معاذ؟

صلى معاذٌ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاء يؤمُّ قَومَه، فقرأ البَقَرةَ، فاعتزل رجلٌ مِن القَومِ فصَلَّى، فقيل: نافَقْتَ يا فُلانُ! فقال: ما نافَقْتُ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّ مُعاذًا يصَلِّي معك، ثمَّ يرجِعُ فيؤُمُّنا يا رَسولَ اللهِ، وإنَّما نحن أصحابُ نواضِحَ، ونعمَلُ بأيدينا، وإنَّه جاء يؤمُّنا فقرَأَ بسورةِ البقَرةِ! فقال: يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟! أفتَّانٌ أنت؟ (أخرجه البخاري).

لذلك، فإن على الإمام أو المفتي أن يراعي حال الناس، فيفتي بالأيسر والأخف عليهم فيما يجوز فيه التيسير إذا كان المستفتي من أهل الترخص، وأن يراعي اختلافاتهم الفردية، فما كان عسيرًا في حق بعض الناس قد يكون يسيرًا في حق آخرين والعكس صحيح، ويفتي بالأحوط فيما يقتنع بقوة دليله ورجحانه من دون أن يجعل من التشديد أو التراخي منهجًا تربويًّا مميزًا.

يقول الشيخ الددو: "لا يجوز للمفتي أن يفتي على مجرد الدواعي التربوية، بل يفتي بناء على ما ترجّح له من الأدلة؛ فهو مؤتمن عليه لا يجوز له أن يفرّط به، أما العمل التربوي فهو مجال الدعاة -كمثل الإفتاء بوجوب تغطية الوجه لفساد الناس وحرصًا على صيانة المرأة، فلا يوجبه بل يقول للرجل: لكن عليك غض البصر- لكن له أن يفتي بما فيه صلاح الناس من باب السياسة الشرعية، لا من باب التربية والدعوة، و لا يخبر بأنه الراجح لديه، كما لو حصلت دافَّة فيفتي بعدم ادّخار لحوم الأضاحي لكن يبيّن العلة في ذلك".

لكن الحاصل أن بعض المفتين يشددون على الناس بحجة فساد الزمان ورغبة في تهذيبهم وضبطهم وتربيتهم، فيؤدي ذلك إلى تنفير الناس وإرهاقهم وتحريف الشرع وتشويهه.

يقول الشيخ القرضاوي حفظه الله تعالى: "كما أن هناك فقه التيسير فإن هناك فقه التعسير"، والأول محمود أما الثاني منفر مذموم، وقد قال تعالى: {يُريدُ الُله أن يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، ومثل ذلك قوله تعالى: {ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عَليْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.