هذي فلسطين.. هذي هي الأرض المباركة
التي ما غيرت ولا بدلت، وما كانت للباغين ولن تكون
فمهما طال وجود المعتدين على أرضها، فلن يكونوا إلا شيئا عابرا سيزول وتزول آثاره. فليفرحوا قليلاً بعربدتهم، فإن بكاءهم بعدها سيطول، وإنها ستنقلب عليهم حسرة وندامة. ووقوف طغاة الأرض معهم، وتسهيل خونة الأمة لفعلهم، ما أعطاهم إلا غرورا خادعا جعلهم ينطلقون مدفوعين بأوهامهم التلمودية وأحقاد حاخاماتهم، ليتطاولوا على المقدسات، ويجوبوا ساحات الأقصى تحرسهم بنادق الجنود ومؤامرات الساقطين.
- هنا فلسطين، وهنا الأسود رابضة
لا يغرنَّكم أن تروها ساكنة، فسكونها استعداد لوثبة أقوى، ولا يُفرحنّكم أن تنال منها الجراح، فجرحها فوران جديد في عزيمتها.. وحتى إن أسلمت الروح فلا تفرحوا، فما مات أسد إلا خلفه آساد وآساد. وما اليوم إلا مثل الأمس، كانت فيه جولة على هذه الأرض للصليبيين حينا وللمغول حينا آخر، وقد عاثوا فيها حينذاك قتلا وإفسادا، فما كان إلا أن نهضت الأمة من جديدٍ لتستعيد مجدها وتثأر لكرامتها، والتاريخ يشهد وتراب فلسطين يشهد، وإن فلسطين الشاهدة على حطين وعين جالوت، لتترقب فوق أرضها ملاحم أخرى مثلها.
- هنا فلسطين، وهنا عزائم الرجال
وليس غريبا هنا أن ترى عزائم الرجال في النساء والولدان كما تراها في الرجال. وإنها لعزائم لا تلين، ولا تزيدها الأيام إلا مضاءً، ولا تعطيها تجارب الحياة إلا قوة واندفاعاً. ألا فليعش صهاينة الشرق والغرب سويعات أحلامهم، وليضموا إليهم صهاينة العرب، فقريباً سيصحون على قارعة تؤرقهم، وزلزلة تدك مضاجعهم، وهاوية تأخذهم إلى الهلاك. وفلسطين التي سيُقتل فيها الدجال الأكبر لن يثبت فيها دجاجلة صغار.
- هنا فلسطين، وهنا منبت الطُهر وإشراقة النور
هنا مأوى الخليل إبراهيم مهاجراً، ومهد المسيح عيسى إذ كلم الناس في المهد، وهنا مسرى خاتم الأنبياء محمد إذ صلى بالأنبياء إماماً، وهنا معراجه في رحلته التي وصلت الأرض بالسماء. وما ينبغي لأرض مشى فوقها المرسلون إلا أن تكون وفية لرسالة السماء، وما ينبغي لأبنائها إلا أن يتناقلوا حمل أمانة النبيين جيلاً بعد جيل، وما ينبغي إلا أن يبقى للأرض في فلسطين نقاؤها وطهرها، وللسماء كلمتها ونورها، وأن تبقى شجرة الزيتون مباركة، ويبقى زيتها يضيء.
هنا فلسطين، وهنا يعلم الكبار ويتعلم الصغار أن رباطهم ليس مجرد عشق للأرض والتراب والمنازل، وإنما هو تأكيد للتمسك بدينهم والولاء لعقيدتهم. وهو دفاعٌ مستميتٌ عن بقايا كرامة أمّةٍ، ضاق بها ذرعاً أنذال الأمّة، فأخذوا يسعَون لبيعها بالجملة في سوق النّخاسة، فلا يكون من فلسطين إلا أن تمضي غير آبهة بهم لتكتب بدماء أبنائها تاريخ مجد للأمة، بينما يقف العبيد أمام أسيادهم في طوابير بانتظار أن يصنعوا لهم تاريخاً.
هنا فلسطين، وما زال غربالها يدور "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْض"، وما زالت أحداثها تدفع الناس لتحديد خياراتهم، وتبعدهم عن المنطقة الرّمادية، فيسقط أناس، ويسمو آخرون. ويتواصل سقوط الأقنعة عن وجوه قميئة لطالما حاولت ممارسة الخداع، ويتتابع تهافت شعارات زائفة صَنْعتُها التجارة والمصلحة.. فليس مستغرباً -والحال هذه- أن ينقم المخادعون والمراوغون على فلسطين، وأن يحقد عليها وعلى أهلها أصحاب العروش والكروش، وأصحاب المناصب والكراسي، ففلسطين كشفت زيفهم، وعرّت قبحهم، وحكمت عليهم بالرّمي في مزابل التّاريخ.
وخارج أسوار فلسطين ما زالت هناك أنفس حية، تراقب الحدث ثمَّ تندفع إلى كلمة تواكب الحدث، فتشعر بالخجل يحيط بها، فمن يبذل كلمة لا يقارن بمن يبذل دماً، ثمَّ إنها تخشى أن يُفهم هذا السلوك وكأنه اعتبارٌ لكفاية الكلمة عند من يستطيع تقديم شيء أكثر، ثم يستنكف دون عذر. وتنتابها الخشية أن تكون من هؤلاء، فتسأل الله ألا يجعلها منهم أو معهم.. ومن صراع الإقدام والإحجام في النفس تخرج كلمة: "قلوبنا معكم".. تخرج الكلمة خجولة لشعورها بأنها لا ترقى إلى المطلوب، لكنها ترجو أن يكون لها من الصدق ما يشفع لضآلتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.