يشكل الاستجمام والولع بالرحلات السياحية بعدا خاصا في حياة الناس، ويحتل حيزا في البرامج والتخطيطات لقضاء الأوقات كلما كانت الفرصة مواتية ووسائل تنفيذ ذلك متحققة، فالإنسان يجنح بطبعه إلى التنويع وتفادي الملل وتأسره الطبيعة ويهيم بها تفاعلا وتعلقا، لكنه ليس شيء من تجليات الطبيعة ومظاهرها أكثر عظمة ربما من البحر.
وكلما تعاظم البحر وزخُر وكان ضمن التصنيفات العظمى للبحار والمحيطات كان أدعى للتأثير في مخيلة الإنسان وإبهاره، وهو يشاهد هذه العرامة المتمثلة في تشكيلة لا مثيل لها، عِمادها هذا الماء الذي يملؤ الأفق وينتهى مدى البصر عند النظر في آفاقه، دون أن يبلغ منه طرفا من المنتهى ولا قريبا من ذلك، وإنما تنساح هذه الكتل المائية فتغطي جانبا كبيرا من هذا الكوكب الأرضي، ثم يستمع المرء إلى جلبة الأمواج المتلاطمة ويتابع مهرجانات اندياحها على سطح البحر جيئة وذهابا لا تتوقف ولا تكل ولا تمل فيلهج مسبحا ربه الذي سوى هذا الخَلْق العجيب.
وتزداد حالة عنفوان البحر وضخامة هيئته وعِظم شأنه إذا ما كان كالمحيط الأطلسي، الذي يقف شيخا مسنا شاهدا على الأيام والدهور، وواقفا على الحيز الفاصل ما بين قارات، ففي الجانب الغربي من أفريقيا والمغرب العربي، يتسمر المحيط الأطلسي وقد وضع طرف عصاه في الضفة الأخرى، بالقارة الأميركية، مغطيا هذه المساحة الشاسعة، ومترسخا بتياراته المائية في الأنحاء المترامية الأطراف، ومن يستخبره عن غابر الزمان وسالف أحقاب الحضارات والأمم والناس فإنه لشاهد لا كالشهود، حيث إنه على صفحات سطحه منذ القديم مخرت ألواح ودُسُر، وسافرت أجيال، وكانت حوادث وقصص لا تحصى، ورحلات وأسفار ووجوه وتواريخ، وأحوال جوية متعاقبة تعاقب الليل والنهار.
وضِمن ما يسفر عنه الإنسان -وهو يحتفظ لعوالم البحار بشعور الرهبة- ذلك التحدي النفسيُ الجسيمُ الذي تغذيه العقيدة وتدفعه مبادئها، فيستسهل الإنسان جبروت البحر أمام تيارات الحماس المشربة بالتوجه في سبيل التضحيات والتمكين للمعتقد، وقد وقف عقبة بن نافع أيام فتحه للمغرب العربي غير عابئ بالبحر لا يلوي على شيء من أهواله، قائلا "اللهم إن كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته إليها في سبيلك".
أما في حالات الاستجمام والتأمل، فللإنسان أيضا صفحة مع البحر، يفتح الشعراء خلالها حوارتهم مع البحار:
بُرْد الأشعة فوق الموج تأتلق .. كمِطْرف التبر إذ يلهو به النزِق
والبحر كنز وهذا الموج حارسه .. والله مالكه والغير مرتزق
وتختبر الفلسفة الشعرية رؤيتها للبحر على نحو ما أبدعت في تناوله إحدى أشهر القصائد العربية المعاصرة حول البحر، فجاء في ديباجتها:
يا بحر كُلُّك في مسامرتي فمُ .. فافتح زجاجة ما تُكنّ وتكتم
وأدر أساطير البداية بيننا .. سيان شهد حديثها والعلقم
سيان فر من الزجاجة مارد .. أم رفّ منها نورس مترنم
يا بحر يا شيخ الرواة على المدى .. متعوذا من موجة تتلعثم
ثم يعمد النص إلى تحليل بعض تمثلات البحر، بالقول:
فالمد والجزر اختصار عوالم .. في الأرض تبنيها العصور وتهدم
وما بين الاندياحات الشعرية بنفوس الشعراء، ومَشاهد العُباب الطامي وقد بسطت عليه المواخر أشرعتها، مجال لخواطر الأدب التي تضمنت مثل قول الشاعر الشنقيطي ول محمدي (من شعراء القرن الثالث عشر الهجري):
وإن عَرَض العباب فمُنشآت .. مواخر لا تزال على استباق
هوابط من جبال الموج طَورا .. وطورا في بواذخه رواقٍ