كانت امرأة لطيفة قوية محبة للخير تحمل في قلبها هموما تليق بكبار الناس تتوقد حيويةً وجمالاً، تحيطها عبارات الثناء والمديح من كل جانب، ثم فجأة وبعد صراع نفسي مرير خلعت حجابها.
كل ما أرادته بعد ذلك أن تحافظ على ما بقي بينها وبين الله تعالى من إيمان وصلات، وألا تهوي في جرف هار، وفي اللحظة التي خلعت فيها حجابها تغير كل شيء، نظرات الناس، قناعاتهم، لقد تحولت عبارات الثناء إلى شتيمة وأصبحت تلك القدوة في أعينهم ساقطة!
هذه الخيِّرة التي كانت تترك لها في كل مكان بصمة أصبحت في كلماتهم "عاهرة"، والتي كانت أنموذجا يحتذى بالانشغال بهموم الأمة أصبحت في تصورهم فارغة تافهة، وهكذا بدأ كل شيء يتغير وبسرعة.
تحطمت تلك الصورة المثالية التي كانت تراها في نفسها ويراها بها الآخرون تدريجيا، وأصبحت تقتنع مع كل شتيمة أنها ساقطة ومع كل لعنة أنها ألعن من الكافرة، أما تلك الهموم التي كانت تشغلها فأصبحت ترى فيها فيصلاً يذكرها بنقطة التحول الرهيبة التي جرت في حياتها! فأصبحت تنفر منها ومن كل شيء يذكرها بها.
لعل بعضكم يستاء وهو يقرأ هذا التوصيف، فكيف قمت بتصوير من تخلت عن حجابها وكأنها ضحية مضطهدة!
ولمَ لا؟ أليست هذه القصة تمثل بعض الواقع؟ أليست ردود الأفعال هذه تملأ الدنيا ضجيجا والمواقع صخبا مع كل حادثة خلع حجاب؟
ما بين الغضب لحرمات الله .. والرفق بالدعوة إلى الله
حكمة مُضَيَّعة
أتساءل في نفسي دوما: ما السبب الذي يدفع البعض لممارسة هذا النوع من التشفي والانتقام ممن بدرت منه خطيئة ما، وما الذي يجعل أحد من الناس يمتلئ شعورا بالتفوق الأخلاقي والديني لمجرد أن الله تعالى ستر عليه ما لا يعلمه عنه إلا الله جنابه! كلنا نعلم جيدا أنه ليس هناك إنسان بلا ذنب إن لم يكن حاضرا ففيما مضى وإن لم يكن فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولعل أكبر ذنب يقترفه المسلم حين يقرر أن فلانا من الناس في الجنة وآخر في النار، أو يرى في نفسه ضامنا للفوز برضوان الله دون غيره.
هذه النفسية وهذا السلوك قد ذمه الله تعالى باليهود والنصارى، داعيا لاجتنابه فقال: { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } (سورة البقرة: من الآية 111).
وأنا هنا لا أتكلم عن الذنوب التي تتصل بظلم الناس والاعتداء عليهم؛ فحقوق العباد مَبْنِيّةٌ على المُشَاحّة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، ولا أتساءل عن ردة الفعل على المعاصي التي تشكل خطرا سافرا على أمن المجتمع المسلم، إنما عن المعاصي الفردية والتقصير الذي يقع المسلم به فيما بينه وبين الله تعالى دون فجور أو مفاخرة أو وقاحة أو هجوم واستهتار ومخاصمة، مما يستوجب الغضب لحرمات الله، سواءً انكشف ستره أم لا؛ فما شأننا به؟!
هل خلع الحجاب هو إعلان حرب على الدين؟
لعل كثيرا من الحالات يكون دافع الخَلع فيها أصلاً نوعا من الرغبة في التحلل من قيود التشريع وهو بالأصل مقدمة ستتبعه أمور أخرى من ترك للفرائض ثم تمرد على الدين كله، لكن هناك حالات وهي كثيرة أيضا لا تكون الحال فيها كذلك وليس الأمر أكثر من تعبير عن طاعة واجبة فشلت تلك المرأة بالامتثال بها وفريضة مهمة أخّلت بها لكنها قد تكون نجحت بغيرها مما لا تستطيعه غيرها، وما أكثرها من عبادات لا يعلم بها إلا الله تعالى.
ليس هذا تقليلاً من شأن اللباس الإسلامي للمرأة فقد فرضه الله عز وجل واتفق العلماء على وجوب الستر للمرأة بالتفاصيل المذكورة، وحرمة كشف ما فرض الشارع ستره، لكنها محاولة لوضع الأمور في نصابها دون تغول أو استخفاف.
يقع كثير من الناس بذنب أعظم خطرا وأكبر أثرا حين تثور حميتهم أمام من خلعت حجابها فيبدؤون بالطعن في شرفها ويتكلمون بعبارات تعتبر في شرع الله قذفا صريحا يستوجب الحد الشرعي، وقد يكون الذنب داخليا في لواعج النفس حين يتألى المرء على الله تعالى.
وقد أخرج مالك في موطئه وأحمد في الزهد: أن عيسى بن مريم كان يقول: ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
إن ردود أفعالنا السيئة تجاه من بدر منهم ذنب ما كثيرا ما تدفعهم دفعا للنفور من الدين كحالة دفاعية ونوع من المفاصلة بينهم وبين من يسلك معهم سلوكا عنيفا وسيئا، بدلاً من ذلك لماذا لا نقوم باحتوائهم، فإن لم يكن مقدورا أو مناسبا فبإمكاننا تجاهلهم وهو أفضل بكثير من أن نصنع من بعضهم رموزا ومشاهير وأصحاب قضية ونحن قادرون على تحجيمهم فنكون فتنة لهم ولغيرهم (رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَة لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) (سورة المُمتحَنة/ الآية 5).
سلسلة تبدأ ولا تنتهي
حين تنهار تصوراتنا حول ذواتنا، وتتحطم الفكرة المثالية أمام ضغوط الواقع وضعف النفس البشرية، ثم نفشل بعد ذلك من انتشال أنفسنا مما نحن فيه من سوء، أو نعجز عن مسامحتها والتصالح معها والغفران لها؛ فإننا سنقع في سلسلة لا تنتهي من الانكسارات والسقطات التي لا يحدها حد ولا يحجبها حاجز، هذا ما فعله إبليس حين آيس من رحمة الله تعالى فطُرِدَ منها، واستمر في العصيان إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
أول خطوة علينا أن ندرك ونتقبل أننا بشر نصيب ونخطئ، نطيع ونعصي وهذا جزء من الخلقة الجبلية التي ركبها الله تعالى فينا، هذا لا يعني أن الخطأ صحيح مقبول لكنه يعني أنه طبيعي، القضية تكمن في طريقة التعامل معه، ووضع حد له بعدم الاستمرار فيه، فنحن لسنا ملائكة ولسنا شياطين والناس كذلك أيضا.
وينبغي أن نميز بحذر بين أن نكره الذنب فنهجره، وبين أن نكره أنفسنا فنشقيها، الحالة الأولى هي الغاية أما الثانية فهي التي تحولنا مع الزمن لأناس متبلدين نقارف الذنب تلو الذنب مسكونين بعجزنا بأن لا جدوى من المحاولة آيسين من رحمة الله كقاتل الـ99 نفسا الذي جاء يسأل هل لي من توبة وحين أجيب بما ييئسه منها أكملهم حتى الـ100.
وقد تكرر في غير موضع في القرآن الكريم أن اليأس قرين الضلال فقال تعالى: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (سورة الحِجْر/ الآية 56) ومثله: {إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ} (سورة يوسف/ الآية 87).
إذا أخطأت تب ثم إن أخطأت فتب وهكذا إلى أن يمن الله عليك بترك ما ابتليت به بصدق وإخلاص، فرُبَّ ذنبٍ أدخلَ صاحبه الجنة. يقول ابن الجوزي (إذا صدَقَ التائب قُلِبَت الأمَّارة مطمئنة) وإن لهجة القرآن الكريم تختلف في الحديث عن العصاة ومعهم، فهي تفيض رحمةً وحُنُوًا وترغيبًا وعتابًا، يشتد مرة ويلين أخرى، لمن عصاه وهو مؤمن به موقن بقدرته وجبروته نادم أمامه، بينما يتحول الخطاب الإلهي لتقريع ونكير ووعيد وتهديد تهتز به الكلمات والمعاني لمن عصاه مستكبرا متجبرا مجرما مفسدا متعديا.
نسأله تعالى العفو والعافية والحمد لله رب العالمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.