الكل يعرف أن سُكان مكة منذ عهد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام كانوا يقطنون بجوار الكعبة حيث كانت منازلهم تُلاصقها حتى عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما نراه في بعض الرُسومات التي اعتمد أصحابها على قراءاتهم التاريخية، فقربوا لنا الصورة، ووضعونا في الحدث، فأصبحت تلك الرسوم تذهب بذاكرتنا بعيداً إلى تخيل تلك الحياة التي كان يعيشها المكي في قلب الكعبة المشرفة.
ولأن الحياة لا تبقى على حال، تم تطوير المكان الذي يجاور الكعبة المشرفة بعد فتح مكة في العهد النبوي، بداية من إزالة كل ما يتعلق بالأصنام والشرك بالله، مروراً بجعلها حرماً خاصاً بالمسلمين كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا) (28).
ثم تواصلت الحضارات تتوالى على السُكنى في مكة، التي أصبحت معشوقة المسلمين من حول العالم لا سيما أنها فيها الكعبة المشرفة قبلتهم التي يتوجهون نحوها في جميعا صلواتهم.
وقد اصطلح السكان الأوائل على إفراغ مساحة نحُّوا فيها بيوتهم إلى مسافة معينة، أبقوا من خلالها فراغا دائريا حول الكعبة من جميع الجهات لكي يتسنى للطائفين إتمام مناسك الحج والعمرة بسهولة، وهذا الفراغ هو ما نراه اليوم ويسمى "صحن الكعبة".
وكان لزاماً لهذه الدائرة المقدسة أن تجد بناء يدور حولها يصلي فيه الناس، ويستظلون به من حرارة شمس مكة التي لا تعرف الشتاء، وتم ذلك فدار السور المُزين بالأعمدة والمُزخرف بالنقوش طائفاً من حول الكعبة، وقد زيّنته 5 منارات بُنيت في العُصور السابقة.
ومع الأيام وجدت الكعبة المشرفة نفسها مُحاطة بمقامات المذاهب الأربعة "المالكية والشافعية والحنابلة والأحناف" وبمبنى بئر زمزم، مما سبب بعض الازدحام، ليأتي القرار الملكي في العهد السعودي الزاهر من مؤسس السعودية الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه بإزالتها بعد استشارة العلماء.
وقبل ذلك وبعده، وبقلوب تفيض بالحب والعشق، كانت تتسابق المنازل نحو الكعبة المشرفة حتى شكلت دوائر متتابعة ومتوالية، تُطل بنوافذها وشُرفاتها على الحرم المكي، فمن لم ير الكعبة سيرى زوايا أخرى من الحرم، حتى ولو اكتفى بتكحيل عيونه متأملا شموخ المنارات التي تحوَّلت من 5 الى 7 منارات في بدايات العهد السعودي.
ولأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام بالنداء لحج البيت في رحاب مكة المكرمة ومشاعرها المقدسة، فقال في سورة الحج (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (27).
فقد جلجل هذا الأمر في آذان البشرية منذ ذلك العهد حتى قيام الساعة، فقدموا من كل فج عميق نحو مُصافحة بيت الله الحرام في قلب الحرم المكي.
مما جعل مكة قابلة للتوسَّع، فالأعداد تتزايد عاماً تلو آخر، مما جعل القيادة الحكيمة في السعودية تُواصل شراء هذه البيوت من أصحابها، والتي شيّدت في مكانها توسعات ضخمة لمصلحة ضيوف الرحمن في الحرم المكي الذي وصلت مناراته في التوسعة الثالثة إلى 13 منارة، تقف شامخة طويلة ضخمة على جنبات صرحه الشاهق، والذي أصبح بساحاته ومنطقته المركزية، وكل ما يُحيط به من أبراج شاهقة مدينة كاملة تسرُ الناظرين وسط مكة المكرمة.
ومن يأتي برسومات أو صور قديمة للحرم المكي ويُقارنها بما يراه حالياً عبر قناة "القرآن الكريم" التي تنقل عبر بث مباشر الحرم المكي على مدار الساعة، سيُصاب بالذهول! فالوضع تغيَّر جداً، وتلك المباني الصغيرة لم يعد لها مكان.
لقد امتد الحرم المكي في شتى جهاته الأربع، ليستوعب بطمأنينته المنعشة ومساحته المدهشة الملايين من الحجاج والمعتمرين في مواسم رمضان والحج وطوال العام.
والذين أضحوا يجدون فيه كل ما يريدون من خدمات في داخله وخارجه، وفي المنطقة المركزية المليئة بجميع الخيارات العصرية التي تلبي حاجاتهم وكمالياتهم، مما ساعدهم على أداء نُسكهم على أكمل وجه بكل راحة وطمأنينة، يثرون من خلالها تجربتهم الروحية، ويعودون إلى بُلدانهم برُوح جديدة، وبذوات مجيدة، يتوجون فيها بلقب (الحاج) الذي تُصبح له مكانته الاجتماعية التي تليق به بين أفراد مجتمعه.
والمكي يعرف جيداً الأحياء التي كانت مُلاصقة لجميع جهات الحرم المكي في قديم الزمان إلى قبل حوالي 10 سنوات، حينما تم البدء في إنشاء التوسعة الثالثة للحرم المكي والتي منها على سبيل المثال لا الحصر الأحياء المكية التالية: (سوق الليل وحي الشامية وحي الفلق وحي القشاشية وشارع خالد ابن الوليد وحي الشبيكة وحي جبل الكعبة وحارة السادة وحارة الباب وشارع المُدعى وحي شعب بني عامر وحي الغزة وحي القُبة وحارة الهجلة والمسيال.. وأجزاء من أحياء أجياد والمسفلة والسليمانية والعُتيبية وجرول قُرب بئر طوى الشهيرة في السيرة النبوية).
والجدير بالذكر أن الذي بقي من حي الشبيكة فقط مقبرة شهداء فتح مكة رضي الله عنهم والتي تُلاصق الحرم المكي بساحة كبيرة مُسورة مقابل أحد أبواب التوسعة الثالثة.
وكما ترون في الواقع ومن خلف الشاشات، فمن أجل راحة ضيوف الرحمن شمل الحرم المكي بثوبه الجميل الجديد وفي توسعاته الضخمة التي شيدتها المملكة العربية السعودية جميع هذه الأحياء بحاراتها وشِعابها وشوارعها وأزقتها وهِضابها وسُهولها وجبالها وأوديتها لتتحوَّل جميع تلك الأحياء إلى صور موثقة في كل ما حبسه الضوء في الإنترنت، وتبقى ذكرياتها خالدة في أذهان المكيين، يستحضرونها بخيالتهم في مجالسهم، ويُقلِبُون ما تبقى من صورها -الثابتة والمتحركة- في هواتفهم، وتغمُرهم (النوستالجيا) وهم يتجولون في دهاليز الذاكرة التي كانوا فيها مُجاورين للحرم، وخُداماً لضيوف الرحمن.
ولا تتعجب إذا قال لك أحد كبار السِن من أهل مكة: أنا ولدت في الحرم المكي! وقبل أن تتعجل في تكذيبه تذكر بأنه قد يكون مسقط رأسه في بعض الأحياء التي ذكرتها آنفاَ، والتي شملتها توسعات الحرم المكي، فبخ بخ لهم، ويا سعدهم وبختهم وحظهم الكبير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

