قال الرئيس فلاديمير بوتين خلال عرض عسكري في إحياء ذكرى الانتصار على ألمانيا النازية في العام 1945 إن الجيش الروسي يقاتل في أوكرانيا دفاعا عن "الوطن الأم" بمواجهة "تهديد غير مقبول" تطرحه الدولة المجاورة المدعومة من الغرب.
وأضاف بوتين أن تدخل بلاده في أوكرانيا كان ضروريا لأن الغرب "كان يستعد لغزو أراضينا ومنها القرم".
إذن، يبقى السؤال: ماذا تعني أوكرانيا لروسيا؟
ولماذا هي الوطن الأم كما يصفها بوتين؟
أولا: الارتباط التاريخي
كانت أوكرانيا ومنطقة كييف المنطقة الأولى التي ظهرت فيها القومية الروسية تحت مسمى "كييفسكايا روس"، كما كانت كييف نفسها عاصمة روسيا القديمة قبل أن تصبح سان بطرسبورغ، وبعدها موسكو.
وكان الأوكرانيون قبيلة سلافية صغيرة تنتشر على رقعة صغيرة غربي مدينة كييف الحالية، ولم تكن لهم قط دولة في مساحة أوكرانيا الحالية، وإنما بعد ثورة البلاشفة عام 1917 ميلادي قام رئيس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين بتأسيس دولة أوكرانيا على أراضٍ سوفياتية، وما كان يتوقع تفكك الاتحاد السوفياتي وذهاب الأراضي الروسية إلى ملكية الأوكرانيين أبدا، حيث كان البلاشفة يريدون من هذه الأراضي إقامة كنيسة أرثوذكسية كبيرة ولها ثقلها حتى تكون قادرة على مواجهة الكنيسة الأرثوذكسية الموجودة داخل روسيا والتي كان ولاؤها للقيصرية، فيضمن البلاشفة بذلك الولاء الديني من خلالها لعدم ثقتهم في الكنيسة الأرثوذكسية التي داخل الاتحاد السوفياتي، والتي كان ولاؤها لروسيا القيصرية.
وهناك ما هو أخطر وربما يتم تعمد إخفائه في تاريخ أوكرانيا، ألا وهو أن دولة الخزر اليهودية تقع في مناطق جنوب القوقاز وشمال أذربيجان وأرمينيا، وفي القرن السابع الميلادي اتجه الخزر للتوسع غربا على حساب البلغار وعلى امتداد السواحل الشمالية لبحر آزوف والبحر الأسود وكونوا في هذه المنطقة دولتهم.
ويؤكد ذلك صاحب كتاب "قصة اليهود عبر 3 آلاف عام" المؤرخ البريطاني سيمون شاما، حيث يستنتج مستندا إلى وجود لفائف يهودية مدفونة بالمقابر في مواقع أثرية خزرية أن "وصول اليهود إلى مملكة الخزر جاء عن طريق حركة انتقال وهجرة من التجمعات اليهودية في البلقان ومنطقة البوسفور، حيث وجدوا مناخا من الأمن والحرية في أراضي مملكة الخزر"، وبعد سقوط تلك المملكة انتشروا داخل مناطق الإمبراطورية الروسية وفي أوروبا الشرقية، قبل أن تبدأ أعداد كبيرة منهم بالانطلاق في هجرات متعاقبة غربا باتجاه بقية أجزاء أوروبا، ليشكلوا في النهاية كتلة اليهود الأوروبيين المعروفين بالأشكناز، وهم يمثلون اليوم نحو 90% من اليهود في العالم، مقابل كتلة اليهود "السفارديم" و"المزراحيم" التي تشكل الـ10% الباقية.
وكان مركز هذه الدولة أوكرانيا الحالية، وكل يهود الخزر استطاعوا النفوذ إلى مراكز السلطة والإعلام، لذلك ترى الإعلام الذي يسيطر اليهود على أغلبه يدعو للدفاع عن أوكرانيا والهجوم على الروس، والدليل على ذلك وجود رئيس يهودي الديانة وهو فولوديمير زيلينسكي على رأس السلطة، وكذلك معظم رجال الأعمال المتحكمين في الاقتصاد الأوكراني وكذلك الروسي "الأوليغارشية"، لذلك من وجهة نظرنا كلمة السر في حل أزمة اليوم هي اليهود والصهاينة.
كما أن شبه جزيرة القرم لم تكن داخل أوكرانيا عند تأسيسها عام 1922، ميلادي بل أدخلها نيكيتا خروتشوف ذو الأصل الأوكراني عام 1954 ميلادي، وذلك لتسهل إدارتها ولكونه أوكرانيا وما كان أحد يتوقع آنذاك أن يتفكك الاتحاد السوفياتي، وأن الروس والأوكرانيين ينحدرون من أصل سلافي، وأن اللغتين شديدتا التشابه حتى التطابق أحيانا كالفرق بين اللهجتين المصرية ولهجة دول المغرب، كما أن حوالي ثلث السكان يتكلمون الروسية ويعتبرون أنفسهم روسا ويريدون العودة للدولة الأم.
ثانيا: الأهمية الاقتصادية
وقد اتضح في السنوات الأخيرة أن منطقة دونباس غنية جدا بما يسمونه "غاز الشيست" الذي اتفق الأميركيون مع الأوكرانيين على استخراجه وبيعه لأوروبا عوضا عن الغاز الروسي الطبيعي، وهو ما أغضب الروس الذي يمدون أوروبا بالغاز.
ومنطقة دونباس كانت المنطقة الرئيسية لكامل الاتحاد السوفياتي التي توجد فيها الأفران التي تنتج محركات صواريخ الفضاء التي صارت أميركا تشتريها من روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وهي الآن ضمن نطاق أوكرانيا، مما يجعل هذه المنطقة مهمة للأميركيين والروس، فلذلك نجد الصراع الروسي الأميركي على أراضي أوكرانيا من خلال وضع حكومة في كييف تابعة وفقا لمصالح كل منهما.
وأيضا نجد أن أراضي أوكرانيا هي من نوع التربة السوداء الشديدة الخصوبة، وهي من حيث المساحة أكبر دولة أوروبية، وروسيا تمتلك 321 ألف كلم مربع في أوروبا والبقية في آسيا، ولذلك فإن أوكرانيا كانت المصدر الرئيسي للغذاء في الاتحاد السوفياتي وكذلك الآن بالنسبة لروسيا اليوم، والغرب يريدها أن تصبح سلة أوروبا الغذائية، وهو ما يغضب الروس الذين لا تنتج أراضيهم شيئا مهما بسبب الجليد، أو تنتج القليل.
وكذلك تريد ربط جزيرة القرم ومنطقة دونباس الغنية بالصناعة بالبحر الأسود، وأن تتصل أراضيها مع القرم باتصال أرضي من خلال ماريوبول وأوديسا والسيطرة على جنوب وشرق أوكرانيا، فبذلك تشكل وحدة اقتصادية بين هذه المناطق التابعة لها وللاتحاد الروسي التي ترغب روسيا اليوم في إعادته، فبذلك تقتطع جزءا اقتصاديا مهما من أوكرانيا، مما يجعل أوكرانيا محصورة في الغرب الهزيل في الثروات وغير الصناعي، مما يجعل أوكرانيا ونظامها في الغرب عبئا اقتصاديا على دول أوروبا وأميركا، وذلك بعد أن تحرم النظام الأوكراني من أقاليمه الغنية بالثروات والصناعة كمنطقتي دونباس والقرم، مما يجعل أوكرانيا دولة ضعيفة اقتصاديا.
ثالثا: أمنيا وإستراتيجيا
نجد أن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تشكلت عدة دول شرق أوروبا تضم أقليات قومية روسية، وكانت أكبر هذه الأقليات في أوكرانيا ومولدوفا وليتوانيا وغيرها من دول شرق أوروبا، ولذلك نلاحظ أن روسيا اليوم تريد إعادة روسيا القديمة الاتحادية تحت شعار القومية وليس تحت أيديولوجية الفكر الشيوعي، لأن قوة الأقليات وجغرافيتها الآن قادرة على خلق دول اتحاد روسي قوي قائم على أهداف وأصول واحدة مشتركة ثابتة وقوية.
ولعل أهم المشتركات بل والأقوى من الأيديولوجيات هو وحدة اللغة والمذهب، وهذه القوميات أكبر أوراق روسيا اليوم الرابحة والضاغطة بها على دول شرق أوروبا التي تأخذ اتجاه الانضمام لحلف الناتو، مما يجعل هذا الحلف على حدود روسيا، بل يجعل روسيا خاضعة لسيطرته وأوامره لأنها ستكون تحت صواريخه المتطورة على مشارف حدود روسيا اليوم.
ولذلك، نجد روسيا اليوم مستعدة للتضحية بمليون مقاتل كي لا تخسر أوكرانيا لأنها جزء حيوي منها وتعتبرها جزءا من أراضيها التاريخية وجغرافيتها الإستراتيجية وعمقها الدفاعي ضد الأخطار الغربية والسيطرة الأميركية، لذلك تريد روسيا اليوم إعادة روسيا القديمة من خلال القوميات الروسية التابعة لها والتي لديها رغبة في تأسيس الاتحاد الروسي الجديد بزعامة بوتين.
ويؤكد ذلك الحركات القومية التي ظهرت في جزيرة القرم وإقليم دونباس وإقليم ترانسنيستريا الانفصالي في مولدوفا، بل سنجد العديد من الأقليات القومية ستظهر في دول أخرى من شرق أوروبا، وهذه أقوى الأوراق الرابحة في يد بوتين وروسيا الحديثة اليوم، ولذلك نجد لديها الرغبة في إعادة روسيا القديمة من أجل العمق الإستراتيجي وخلق مناطق عازلة بين روسيا الحديثة وحلف الناتو الذي يتوسع بشكل متزايدة في شرق أوروبا تحت زعامة الولايات المتحدة وبريطانيا.
بدورها، ترى الولايات المتحدة أن الحكومة الروسية في السنوات الأخيرة تريد إعادة بناء الاتحاد السوفياتي الذي تفكك عام 1991 ميلادي، والذي كان يضم إضافة إلى روسيا كلا من أوكرانيا وبيلاروسيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدوفا.
وفي النهاية، لا بد من طرح عدة تساؤلات عليك أيها القارئ العزيز، وهي: هل سينجح بوتين في إعادة روسيا القديمة لتكون قوة قادرة على مواجهة أميركا وأوروبا؟ هل ستنجح روسيا اليوم في تغيير خريطة العالم السياسية من عالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية إلى عالم متعدد القطبية تكون روسيا اليوم جزءا من قراره السياسي وقوته الدولية؟ أم ستكون هذه الحرب نهاية بوتين وفخ من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وذلك من أجل ضرب اقتصاد روسيا وحصاره دوليا، وبذلك تحد من نشاط روسيا النووي المتزايد في السنوات الأخيرة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.